الاثنين، 25 يونيو 2012

الشيخ فتح الله كولن وسكونية العقل المسلم

[1]

يأسى "الشيخ فتح الله كولن" لهذه السكونية التي تسكن عقل المسلم وتمنعه من الانطلاق في دنيا الله بما يحمله من إيمان وإسلام. وهو يرى في هذه السكونية نوعًا من الموت الفكري يجب على العقل المسلم أن ينأى بنفسه عنه.

فالسكونية في عالم مضطرب ومتحرك لا يتوقف أبدًا، هي نوع من الانتحار الإيماني، وشلل يُعجِزُ صاحِبهُ عن ملاحقة ما يستجدُّ في العالم من توجُّهات فكرية وروحية.

وقلب الشيخ مفعم بالأسى من أجل الجنس البشري المتلهف لسماع كلمة الحق من أفواه أهل الحق، ولكن هذه السكونية الكسول هي التي أقعدت المسلمين ومنعتهم من السير بكلمة الحق شرقًا وغربًا ليَسْمَعَهَا العالمُ كلُّه.

فالسكونية حالة بائسة مرفوضة من قبل الكون والحياة المبنيين على الحركة والتحول، لأنها على النقيض منهما، فمناكفة الكون، ومعاندة الحياة، تعودان بأشدّ الضرر على صاحب العقل السكوني، حيث يتجاوزه ركب التجديد ويخلفه وراءه منكفئًا على آلام سكونيته بخوائه الفكري وجوعه الروحي.

[2]

إنَّ مسؤولية المسلم الأخلاقية والأدبية تُحَتِّمُ عليه -كما يقول الشيخ- أَنْ ينـزع عنه ثوب السكونية، وأن يغادر أرائك الراحة والكسل المطمئن إلى غير رجعة، وأن يستبدل بهما شيئًا عظيمًا من القلق والتوتر الروحي إلى آخر مداه، وأن يضرب في الأرض حيثما تقوده قدماه، مفتّشًا عن الإنسان الذي تضنيه قضية الحياة وغاية الوجود، ويعذبه تردده بين الشك واليقين، وأن يسارع إلى مدّ يد الإنقاذ إلى أولئك الساقطين في هوة اليأس، والهاربين من وجه الله إلى غير وجه، والرافضين للحياة، والغائصين في مهاوي العبثية والرغبة في الانتحار، وكأنَّ لسان حالهم يقول: "لماذا نظلَّ أحياءً فوق هذه الأرض إذا كان القبر قد فغر فاهه لابتلاعنا في آخر المطاف...؟!"

[3]

إنَّ التحولات الإيمانية الكبرى، لا يقوى عليها إلاّ أصحاب الأرواح العظيمة القلقة المؤرقة، التي يقلقها ويؤرقها ثقل المسؤولية التي شرفهم الله تعالى بتقليدهم إياها.

والشيخ "فتح الله" يرى أن جوهر "الحضارة الإسلامية" يكمن في هذا القلق الروحي والأرق الفكري، الباعثان على التغيير على الأرض وفي الوجدان، والمحفزان على الانعتاق من سجن "المَكانية" الثقيل، والتحرر من خناقها على الذهن، والانفكاك من غِلِّها الذي تغلُّ به المسلم وتجعله يخلد إلى عتيق فهمه، ويطمئن إلى قديم علمه، بينما يلحُّ عليه في الأعماق نازع ينـزع به نحو ارتقاء عقلي أعلى، وسمو قلبي أرفع.

وإنَّ مِمَّا يثلج صدر "الشيخ"، ويدخل على قلبه الحبور، رؤيته لِثُلَّةٍ من المؤمنين وهم يضربون في معارج الرقي الروحي، ويشكلون بعروجهم هذا مفخرةً لجنس الإنسان، وإكليل مجدٍ فوق جبين البشرية، ولسان حالهم يقول: "خَلُّوا سبيلنا ودعونا نضرب في الأرض"، حاملين ذلك القبس القرآنيّ إلى أقاصي العالم... هؤلاء المؤمنون البسطاء في عظمتهم، الأقوياء في ضعفهم، الأغنياء في فقرهم، إنهم أرسخ قدمًا في دنيا الحق، وأشدُّ توقًا إلى عالم الخلود.. لا يقبلون عنه بديلاً ولا يرضَون سواه موئلاً وملاذًا.

وهؤلاء -كما يؤمل الشيخ- هم القوة التي ستوطد أركان الحقيقة الإيمانية على ظهر الأرض، يحركهم شوق عظيم لا يقاوم، ويُوْرِي زِنَادَ أفكارهم بوارق من عالم الغيب... إنّ فيهم شيئًا إِلهيًا لا يني يزور أرواحهم ليديم شعلة الروح ذاكية قوية ليكون بإمكانهم أن يغزوا قلب الليل بقوة وشجاعة.

والعجب كل العجب من هذا الكوكب الأرضي، كيف لا يتلاشى ويتمزق من الغيظ شظايا في الفضاء وهو يرى غدر الإنسان وإدباره عن ربّه وخالقه..! فإذا أقفرت الأرض من العارفين الساجدين فإنها تفقد معنى وجودها ومغزى خلقها، لا بل تفقد الحياة التي تمدها بأسباب البقاء... لأنّ الإيمان حياة، بل هو قلب الحياة، وروح الوجود، ومن دون هذا الإيمان سينتابُ الأرضَ هلعٌ رهيب يقصيها عن أمومتها لنا، واحتضانها لنا، فتتركنا في هوة أتراحنا وعذاباتنا نتجرع مرارة اختفاء إنسانية الإنسان فوق هذه الأرض، لأنّ الإنسان عنصر روحي في قالب ماديّ، فإذا فقد جوهره الروحي صارت حياته خلوًا من الحياة، وصار قالبه الإنساني خلوًا من الإنسانية.

وَإنَّ مِمَّا يؤنس الأرض ويطمئنها على مصيرها، إحساسها بأنّ على ظهرها عبقريات قرآنية تجوب آفاقها، وتبحث في أرجائها عن الإنسان التائه في شعاب "اللاّدينية" المهلكة حيث يجد من أبطال المحبّة -كما يسمّيهم الأستاذ- مَنْ يحنو عليه ويأخذ بيده إلى الطريق القرآني المشرق بالنور والأمل والسلام.

وإذا ما ماجت الروح، وطفحت الأشواق، وتعالى الوجد، واشتدّت وتيرة الإيمان، وارتفع لهب العقل، فلا شيء يمكن عندئذٍ أن يسع المؤمن، ويحدَّ من إنسيابه في عروق الأرض وشرايينها، فيأتي الحضارات يدقّ أبوابها، والمدنيات، فيَفُكّ الغازها، والبلدان والأقوام والشعوب، فيخالط وجدانها، ويأتي العقول من أبوابها، والأرواح من منافذها.

أعطني -يا صديقي- ألْفًا من الفتْيان السائرين
 في الصدق على قدم أبي بكر، والصُّلبين في الحق صلابة عمر، والعاشقين للقرآن عشق عثمان، والمقدمين في الملمات إقدام عليّ رضي الله عنهم أجمعين، أَفْتَح لك قلب العالم، وأُنِرْ لك ظلام الدنيا، وآتيك بالتاريخ طوعًا أو كرهًا، وأزلْزل الأفكار، وأقلب المفاهيم، وأجعل الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء، وأصِل ما بين قلب الكون والإنسان، وبين روح الإنسان وروح الله..!

"لذلك نؤمن بضرورة توجيه العالم الإسلامي جميعًا إلى التجدد بكل أجزائه في فهم الإيمان، وتلقيات الإسلام. وشعور الإحسان، والعشق والشوق، والمنطق، وطريقة التفكير، وأسلوب الإفادة عن نفسه، بمؤسساته ونظمه التي تكسبه هذه الأحوال".

بمثل هؤلاء "السامعين بوجدانم دومًا أناشيد الماورائية تناديهم إلى الله"، يمكن للعقل المسلم أن يتحرر من سكونيته، ويخرج من شرنقته.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم: أديب إبراهيم الدباغ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) ملاحظة مهمة: الأفكار الواردة في هذا المقال يجد القارئ أصولها في كتب الأستاذ فتح الله المترجمة للعربية وهي: النور الخالد، أضواء قرآنية، الموازين، طرق الإرشاد في الفكر والحياة، روح الجهاد وحقيقته في الاسلام، ترانيم روح وأشجان قلب، ونحن نقيم صرح الروح....



               المصدر : صفحة الأستاذ فتح الله كولن علي facebook





الأحد، 24 يونيو 2012

كتاب طرق الإرشاد في الفكر والحياة للأستاذ فتح الله كولن ،هذا الكتاب فريد في نوعه، إذْ هو ليس كما قرأنا من كتب في الموضوع نفسه بل يمكن أن نطلق عليه عنواناً آخر، فنقول: إنه كتـاب في "فقه المعاناة والألم" من أجل الدعوة، بالإضافة إلى كونه قدحةً تضيء الجوّانيّة العميقة للإنسان وما تطفح به من نازع إيماني فطري عميق. والكتاب يكاد كله يكون عملية تحريكية لهذه الفطرة المدركة، وترجمة رؤاها، والتعبير عن أهدافها ومقاصدها، كما أنه ضدّ الفوضوية الروحية والفكرية التي تعاني منها الدعوات. وهو يهدف إلى إرساء قواعد أساسية منظمة في "العمل الدعوي" تحول بين الداعية والتفَلّت إلى مجالات أخرى غير ملتزمة وغير منضبطة، وبذلك تحتفظ الدعوات بقواها وتمنعها من الإنفلات والتبدّد في غير فائدة ولا طائل.

   لتحميل الكتاب كاملا يرجي زيارة الموقع الخاص بالأستاذ فتح الله كولن وفقا للرابط التالي :


الفصل الأول: تحليل التبليغ
1-التبليغ غاية وجودنا
2-الحاجة إلى التبليغ ومكتسباته
3-التبليغ أثمن هدية
4-التبليغ يتطلب الاستمرار
5-جوانب التبليغ المتوجهة إلى الحق سبحانه وإلى الخلق
6-التبليغ والعلاقة بين الفرد والمجتمع
7-الإرشاد والإيمان والنفاق
8-الإرشاد والهلاك من خلال الحوادث التاريخية
9-التبليغ والإرشاد مقياساً لنصرة الدين


1- التبليغ غاية وجودنا
إن "الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر" طريق يؤدى إلى الغاية من خلق الوجود. فقد فتح الله سبحانه وتعالى قصر الكون لأجل هذه المهمة السامية والوظيفة الجليلة، وبوأ الإنسان منـزلة الخلافة في ذلك القصر المنيف لأجلها. وأُسست سلسلة النبوة لهذا السبب. فسيّدنا آدم عليه السلام هو أول إنسان وأول نبي على الأرض، ما إن فتح أبناؤه أعينهم حتى وجدوا أمامهم أباهم نبياً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.. وهكذا تشكلت البشرية بدءاً بالنبوة. وفي النتيجة أثمرت شجرة النبوة سيد الكونين ذلك النبي العظيم الذي هو بذرتها الأولى، وخُلقت الأفلاك لأجله صلى الله عليه وسلم. ولا ريب أن غاية بعثته هي التبليغ والدعوة إلى الله والإرشاد. وما روح التبليغ والإرشاد إلاّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بمعنى أن الوجود ما وجد إلاّ لأجل هذه الغاية، ولا جرم أن عملا هو سبب خلق الوجود هو أجلّ الأعمال.

نعم، فقد وجد أبناء آدم عليه السلام أن أباهم يسدد نظره كل آن وأوان إلى العالم العلوي، ويستلم الأوامر من هناك ويرضخ خاشعاً أمام هذه الأوامر، بل لا تغادره الخشية من تلك العوالم الأُخرى. حتى غدا لهم"النبي الأب" كالنجم القطبي في سمائهم يدلّهم إلى سواء السبيل، فسيدنا آدم هو أول إنسان ونبي أدى مهمة "الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر". ولا غرو فليس هو بدرب يفتح لمرة واحدة فقط ثم يسدّ، بل تتابع عقب سيدنا آدم عليه السلام أنبياء عظام يسلكون الدرب نفسه، إذ كانت حاجة البشرية مستمرة إلى الأنبياء. لأن الفضائل مهما بلغت في الإنسان فإنها تضعف وتشحب وتنتهي بمرور الزمن وتحت وطأة الحوادث. وقد أشار القرآن الكريم إلى عهود طال عليها الأمد من دون تجدد فأصبحت وسـيلة لقسوة القلوب. وعندها تنخسف عيون البشر وتزيغ الأبصار وتـزل الأقـدام، فتفقد الإنسانية استقامتها. لذا بعث المولى الكريم الأنبياء تترى لعلمه المحيط بأوضاع البشرية ولسبق رحمته على غضبه. فتولى كل نبي مهمة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حسب ظروف زمانه.

أمضى سيدنا آدم عليه السلام حياته على هذه الصورة وأوصى أولاده دائماً بأداء الصالحات واجتناب المنكرات. واستمر صدى صوته وإرشاده إلى فترة من الزمن، حتى إذا خفتت نبرات ذلك الصوت وفقدت قوتها ألقى الله سبحانه وتعالى مهمة النبوة على عاتق أحد أبناء سيدنا آدم عليه السلام المجتبين. وهكذا كلٌ قد أدّى تلك المهمة الجليلة على أكمل وجه وأتمه. وكلما أفَلَت شمسُ نبي من الأنبياء أشرقت شمس نبي آخر بعد أن أظلمت سماء البشرية. وعلى الرغم من أن الأولياء العظام أيضاً قد ملأوا تلك السماء المظلمة بالنور كالنجوم المتلألئة إلاّ أن نورهم ليس بسطوع ما ينتظر من نور شمس النبوة.

ومرت العصور هكذا إلى عهد سيدنا نوح عليه السلام، وعندها دوّى في أذن البشرية صوته الجادّ الذي يليق بنبي عظيم من أولي العزم كما عبّر عنه القرآن الكريم ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف:62).

يعني: سينجو مَن يستجيب لي ويطيعني ويركب سفينتي، وستكون هذه النجاة نجاة ظاهرة وباطنة معاً؛ فالسفينة التي تمخر عباب الأمواج المتلاطمة كالجبال تنجي أجسادكم، وتنجون من الغرق في أمواج الحياة الدنيوية والأخروية الرهيبة، وتبلغون ساحل السلامة إن ارتبطت قلوبكم بي وأصغيتم إلى كلامي. وإلاّ ستنتهون وتضمحلون مادة ومعنى ظاهراً وباطناً.

هكذا أمضى سـيدنا نوح عليه السلام ما يقرب من ألف سـنة من حياته في الدعوة بهذا الأسلوب. ثم بعث الله سبحانه بعده سيدنا هوداً عليه السلام. فردد أيضاً: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾(الأعراف:68). ودعا البشرية إلى القيام بما يوافق غاية خلقهم. تلك الغاية التي خُلق لأجلها الإنسان. فتعاقبت الأنبياء عليهم السلام لتذكير هذا الإنسان بهذه المهمة، أي ليعرف ربّه ويؤمن به ويستشعر بما آمن به في وجدانه. وقد أُرسل بعد سيدنا هود عليه السلام أنبياء عظام أدّوا المهمة نفسها وسلكوا السبيل نفسه.

وهكذا كلما مُسحت من الأذهان أثر أنفاس النبي السابق تدنت البشرية وتعاقبت هزات عنيفة في حياتها المعنوية، حتى تحولت تلك الحياة إلى أرض جرداء لا حياة فيها. فانتهت تماماً نسائم الانشراح القادم من ذلك العالم السامي، وتدهورت البشرية وتفرقت شذر مذر.

كانت البشرية تعيش هذا الوضع من الظلام الدامس عندما اُرسل سيدنا إبراهيم عليه السلام، فاقتحم صفوف الناس بأنفاس "الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر" الباعثة على الحياة، وهرع إلى كل موضع يرى فيه ثلة من الناس ودعاهم إلى الله وبلّغهم الحق والحقيقة. فالذين أعاروه سمعهم واتبعوه بلغوا شواهق كمالات الإنسانية مجدداً وتجولوا في تلك الذرى.

ولكن بعد فترة من الزمن أخذت البشرية كرة أخرى تغادر الذرى وتتردى تدريجياً إلى ما كانت عليه سابقاً، فتصدرت الأذهان فكرة المادية الجاسية حتى أخذت البشرية تبحث عن ضالتها في الماديات، فهذه المصيبة التي جثمت على صدر البشرية امتدت حتى عصرنا الحاضر، بل نحن أدرى بويلاتها وعواقبها الوخيمة.

فهذا سيدنا موسى عليه السلام ظهر في مثل هذا الجو المادي، في دلتا النيل بمصر، وفي قوم قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة. وهو كإخوانه السابقين من الأنبياء مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فتحمل هذه المهمة الصعبة وأخذ بيد قومه ليرقى بهم إلى الذرى مرة أخرى. فوفّق إلى حد ما في مسعاه، إذ على الرغم من أنه خاطب قوماً لا يسلس قيادهم وهداهم فقد شاهد كثيراً من ثمار دعوته المباركة وحصيلة سعيه الدائب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو ما زال على قيد الحياة.

ومما لا شك فيه أن الأخذ بيد الإنسانية والصعود بها إلى الشواهق العالية وجعْلَها تدرك إنسانيتها كاملة ليس بالأمر السهل الميسور؛ فلقد اُستشهد أنبياء كثيرون في هذا السبيل. حتى إن زكريا عليه السلام شُقّ إلى نصفين بمنشار من حديد، وإن سيدنا يحيى عليه السلام استشهد في هذا السبيل، وما الصليب الذي نصب لسيدنا عيسى عليه السلام إلا لهذا الغرض.

وعلى الرغم من كل هذا فالمصاعب والمشاق التي تَعَرَّض لها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هي أدهى منها كلها، إذ لم يبق شيء من الأذى والمشاق إلاّ وعاناها حتى قال لسيدتنا عائشة رضي الله عنها: "لقد لقيتُ من قومكِ ما لقيتُ".[1] في هذا الكلام أنين قلب منكسر صادر من رسول محزون. خذوا هذا الكلام وأوصِلوه إلى جميع الأنبياء والمرسلين حتى سيدنا آدم عليه السلام، وراقِبوا خيالاً وقْع هذا الكلام، ستجدون أنه أنين قلب منكسر لكل نبي من الأنبياء. وكأننا نرى سيدنا آدم يجمع أبناءه ويقول لهم: "لقد لقيت منكم ما لقيت" وسيدنا نوح وهود يقولان الكلام نفسه، وهكذا الأنبياء الباقون يرددون الانكسار نفسه لأقوامهم.

وإذا ما عُصر كلام السعداء الذين تعهّدوا هذه الوظيفة وأخذوها على عاتقهم من بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجد الإنكسار نفسه يتقطر منه:

"لم أذق طوال عمري البالغ نيفا وثمانين سنة شيئا من لذائذ الدنيا… قضيت حياتي في ميادين الحرب، وزنـزانات الأسر، أو سجون الوطن ومحاكم البلاد. لم يبق صنف من الآلام والمصاعب لم أتجرعه؛ عوملت معاملة المجرمين في المحاكم العسكرية العرفية، ونُفِيتُ وغُرّبت في أرجاء البلاد كالمشردين، وحُرمت من مخالطة الناس شـهوراً في زنـزانات البلاد.، وسُممت مراراً، وتعرضت لإهانات متنوعة، ومرت عليّ أوقات رجحت الموت على الحياة ألف مرة. ولولا أن ديني يمنعني من قتل نفسي، فربما كان سعيد الآن تراباً تحت التراب".[2]

فهذه الكلمات ما هي إلاّ تعبير عما يكنّه القلب من انكسار. ولعله بكلامه هذا قد أفاد عن جميع العظماء المنكسرة قلوبهم. فهذه الحالة إذن قدرٌ مكتوبٌ على كل من يقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

ولأجل استشعار أهمية هذا الأمر وجلالة قدر المشتركين فيها أردت تحريك مكوك تفكركم لتنسجوا خط المواصلة ولاسيما بين سيدنا آدم وسيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم. وشدة انفعالي نابعة من قدسية المسألة، فأكاد أستشعر وأسمع في خيالاتي شدو أذكار أولئك الميامين، رجال الحق والحقيقة.

إن كل خطوة يخطوها المرء في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تُكسبه ثواب وراثة النبوة؛ لأن هذه الوظيفة الجليلة هي أساساً وظيفة الأنبياء عليهم السلام. فأيّما إنسان يخطو فيها خطوة فقد دخل تحت عبء هذه المهمة النبيلة، أووهب له المولى الكريم هذه الوظيفة فضلاً منه وكرماً.أي يغنم ثواب هذه الوظيفة حسب نيته ودرجته.

وتجدر الإشـارة هنا إلى أمر آخر، هو: أنه لما كانت هذه الوظيفة وظيفة الأنبياء عليهم السلام وهم جميعاً على الاستقامة التي أمر الله بها سبحانه، فالذين ينهضون بهذه الوظيفة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" هم كذلك على الاستقامة من حيث أداؤهم لهذه الوظيفة في الأقل.

والخلاصة: أن على المؤمن أن يوفي هذه الوظيفة الملقاة على عاتقه أي التبليغ حقها ضماناً لقبوله مؤمناً لدى الرب الجليل وبقائه على الإيمان به، وذلك للعلاقة القريبة بينهما. فلا يثبت الأفراد وكذا الجماعات وجودهم ولا يمكن أن يديموه إلاّ بإيفاء هذه الوظيفة حقها.

إن سر وجود المؤمن وشرط بقائه مؤمناً حقاً هو: تمثل الحق والحقيقة في حياته، وعدم السكوت كالشيطان الأخرس أمام الظلم، وعدّ الحياة غير ذات أهمية والاستهانة بالموت، والبقاء دوماً في دائرة مفاهيم الصحابة الكرام، واعتبار هذه الوظيفة السامية غاية الحياة. فما أضيع الأيام التي مرت دون معايشة هذه الأمور. فينبغي على كل مؤمن أن يلوذ إلى كنف الله سبحانه ويستعيذ به من مجتمع لا ينهض بها.

ويجد المرء إمكانية ترجمة أفكاره التي يؤمن بها ويضحي في سبيلها إلى الحياة، في أثناء أدائه هذه الوظيفة، فضلاً عن أن ما يحمله من إيمان لا يبقى في فراغ. إذ الإسلام حقيقة هو معايشة وحياة، فلا يُفهم ما لم يكن معيشاً. والإنسان الذي جعل الإيمان والدعوة مركزاً لكل شيء، ينسج جميع فعاليات حياته حول هذا المركز.إذ إن أول أساس من الأسس الخمسة التي يجب على المؤمن أن يحافظ عليها هو الدين.[3] فهو بلا شك يحافظ على عرضه وشرفه وماله، وحياته، ونسله، وعقله، ولكن عليه أن يحافظ على دينه أولاً. وهو علامة على ما يوليه لدينه من أهمية. بل أجلى موقف يعبّر عن مدى ارتباط الفرد بالله سبحانه هو ما يبذله من جهد وغيرة على الحفاظ على دينه. ومما يجب ألاّ يُنسى أن الذي لا يحافظ على دينه لا يحافظ أيضاً على الأسس الأربعة الأخرى. ولعل أصوب درس يعلّمنا التاريخ إياه وأغزره عبرة هو هذا الدرس.

لقد خلقنا الله سبحانه وتعالى لنعرفه ونعرّفه. فالعيش بمقتضى القصد الإلهي هو سـر خلقتنا الذي يعمّر دنيانا كما يعمّر آخرتنا. وبخلافه نعاقب بصفعة تأديب من أجل هذا المقصد الإلهي الذي هو ضمان حياتنا الدنيوية والأخروية، نعاقب كأمة ونعاقب كمجتمع ونُدفع إلى شِباك الفتن والفساد والعياذ بالله. أي يتعرض المجتمع إلى البلايا والمصائب عندما لا يؤدى هذه الوظيفة الجليلة، وظيفة التبليغ، وقد عبر عنها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ذات يوم والصحابة كالهالة حوله يستمعون إليه وكلهم آذان صاغية، وفي هذا اليوم صدر من ذلك اللسان الطاهر النـزيه شيء من عبارات التهديد والهلاك في حديثه الشريف الذي يرويه أبو يعلى وابن أبى الدنيا: عن أبي هريرة قال: قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف بكم أيها الناس إذا طغى نساؤكم وفسق فتيانكم؟ قالوا: يا رسول الله إن هذا لكائن؟ قال: نعم وأشد منه، كيف بكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: يا رسول الله إن هذا لكائن؟ قال: نعم وأشـد منه، كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفا والمعروف منكرا؟".[4]

اندهش الصحابة الكرام وحاروا أمام هذا الكلام، فما كانت عقولهم تتحمل أمراً كهذا؛ لأنهم كانوا يؤمنون أن مثل هذه الفتن لا تقع في مجتمع طالما فيه مؤمن واحد. ولهذا استفسروا: وقالوا: "يا رسـول الله إن هذا لكائن؟".

فهم يقولون هذا استفساراً وحيرة في الوقت نفسه. وعندما قـال الرسول صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده وأشد منه"، خيّم جو غريب وزاغت الأبصار، فاستفسروا مرة أخرى في حيرة أشد: "ما أشد منه يا رسول الله؟" قال: "كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفا والمعروف منكرا؟" ولنأخذ هذا الجزء من هذا الحديث الشريف الـذي يشير إلى يومنـا هذا.

نعم، إن الحديث الشريف يشير إلى أن الموازيـن والقيم، بل كل شيء سينقلب رأساً على عقب، فيصبح المنكر معروفاً والمعروف منكراً، وتشيع الفاحشة، وتعم الفوضى والإرهاب، ويُستخف بالإيمان والقرآن، ويُستهان بالمؤمنين، وتحافظ الدولة على عدد من المنكرات بالقوانين، وتعدّ الحقائق التي تخص الدين تخلفاً ورجعية. وهذا هـو قلب للقيم والمقاييس. وإنسان هذا العصر قد عاش هذه الفتن أضعافاً مضاعفة وأظن أنه سيعيشها مدة أخرى. فالذل والهوان سـيحلان محل العزة والكرامة ما لم تؤدَّ وظيفة التبليغ.

فإذا ما انتُهكت قوانين الفطرة فلا بد من تحمّل العاقبة الوخيمة والمصير المحتوم. والأمر على هذا المنوال منذ القدم. وذوو العقول السليمة لا يترقبون غير هذا. ولهذا استفسر الصحابة الكرام الذين استصعب وجدانهم ذلك مرة أخرى: "يا رسول الله إن هذا لكائن؟" أي أيؤمر بالمنكر وينكر المعروف؟ "بل أشد منه سيكون. كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟" بمعنى أنكم حينما تهملون أهليكم وذراريكم، فينجرفوا مع التيـار، حتى تأمروهم بأفعالكم وأطواركم وأحوالكم بالمنكرات وتدفعوهم إلى نسيان الله ونسيان رسوله الكريم من القلوب. فيا ويلكم إذن من ذلك اليوم!

وهنا بلغت الحيرة والدهشة لدى الصحابة الكرام مبلغها سألوا بنبرات متقطعة: "يا رسول الله إن هذا لكائن؟.." فاجاب: "والذي نفسي بيده سيكون أشد منه". وقال: "فتن كقطع اللّيل المظلم يتبع بعضها بعضًا تأتيكم مشتبهةً كوجوه البقر لا تدرون أَيًّا مِنْ أَيٍّ".[5]

فالرسول صلى الله عليه وسلم يبيّن للأمة بياناً معجزاً العاقبة الوخيمة الناجمة من عدم إدراك أهمية هـذه الوظيفة الجليلة، وفي الحقيقة نحن جميعاً مكلّفون بهذه الوظيفة. ففي أعماق قلوبنا أنّات وآهات لآثام ثلاثة عصور خلت. والعلاج الوحيد لإزالة هذه الأنات والآلام العمل على إدراك الأمة أهمية الوظيفة التي تعهدها الأنبياء الكرام والقيام بأدائها معاً.

الهوامش

[1] البخاري، بدء الخلق 7؛ مسلم، الجهاد والسير 111.

[2] سيرة ذاتية لبديع الزمان سعيد النورسي، ص: 457.

[3] الأسس الخمسة هي: الدين، العقل، النسل، المال، النفس.

[4] المسند، لأبي يعلى 11/304؛ مجمع الزوائد للهيثمي، 7/280-281.

[5] المسند للإمام أحمد، 5/391.



                                         المصدر : صفحة الأستاذ فتح الله كولن علي موقع +google
2- الحاجة إلى التبليغ ومكتسباته

إنساننا اليوم بحاجة إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أكثر من أي وقت مضى، فالنبوة قد ختمت بخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، فسُدّ ذلك الباب سداً نهائياً. والحال أن عصرنا الحاضر يموج كفراً وعصياناً يفوق مجموع ما في العصور التي خلت. لذا يتعرض الذين تعهّدوا هذه الوظيفة الجسيمة في يومنا هذا إلى مضايقات ومشقات أشد ممن تعرضوا لها في العصور السابقة. فهذه الظروف العسيرة جداً هي التي تؤهل مرشدي عصرنا ومبلّغي الدعوة فيه أن يسبقوا الذين أتوا من قبلهم، ونأمل أن يتسنموا موضعاً خلف الصحابة الكرام مباشرة. فالنفس مهما كانت أدنى من الكل إلا أن الوظيفة أسمى من الكل. واللطف الإلهي سبحانه يرِدُ بقدر حاجة الناس. وعندما تُقسم الرحمة الإلهية إلى النـاس كافة توزّع على الأغلب بنسبة متعاكسة مع اقتدار الشخص؛ فمن كان أعجز وأضعف فالله سبحانه أرحم به.
إن الذنوب النـاجمة من النظر من منافذ أجواء شتى، وما تترك من انطباعات في أذهاننا قـد اقتحمت حتى أغوار قلوبنا بل جعلتنا مشلولي القوى، فباتت ليالينا خالية من الأشواق ومحاريبنا محرومة من الدموع. ولا أدري مـاذا ننتظر من مصائب بحالتنا هذه الشبيهة بجثة هامدة خاوية من العشق والمحبة؟ وربما المصيبة التي هي أدهى منها هي الطرد من رحمة الله الذي أصاب الشيطان -والعياذ بالله-.
نعم، نحن أناسي القرن العشرين نُصبح ونُمسي مع الذنوب، فلو رُفع الحجابُ عن أبصارنا وشاهدنا ماهيتنا المعنوية لكنّا أول من يولّى فراراً من حالتنا تلك.
وعلى الرغم من كثرة إجرامنا وانهيارنا وسقوطنا فإن إيداع ربنا الكريم وظيفة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلينا ليس إلا من حاجتنا الشديدة إلى رحمته تعالى. فنحن في منتهى الضعف والعجز والله سبحانه في منتهى العلو والرحمة. ولو عبّرنا عما يختلج في وجداننا بـ"الحمد لله" ألوف المرات لكانت زهيدة أيضاً تجاه رحمته الواسعة هذه.
لقد غدا القرن العشرون قرن انهيار كل ما يتعلق بالمعنى والروح؛ إذ زاغت النظرات وغُشيت الأبصار وقُصمت الظهور، وغدت مواقع القياد خلاف طهر المحراب. وعلى الرغم من هذه الظروف غير الملائمة فإن صوت سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وأنفاسه الطاهرة تُسمَع ولو بهمسات خافتة. وإن صدى أقواله المباركة التي نطق بها قبل عصور، يتجاوز المكان والزمان ويصل إلينا، وما هذا إلا رحمة ربنا الواسع الرحمة. وإلاّ كيف نفسر هذا الأمر؟ ولهذا فما علينا إلا أداء الشكر على هذا اللطف العميم. وذلك بأن نملأ أعماق أرواحنا بأنفاسه الطاهرة الباعثة على الحياة ونستنشقها. فالذين يؤدون الشكر بهذا الشكل ينجون بإذن الله في العاقبة.
يقول سعدي الشيرازي:
تُـرى، أيُّ غـمّ قد يَحيـقُ بأمةٍ               لها أنت في الدنيا ظهيرٌ ومعوانُ
وما الخوف من موج البحار إذا طغى              ونوح على ظهر السفينة رُبانُ[1]
نعم نحن نبحر في سفينة النجاة، ربانها سيد المرسلين. ورباننا يهتف بنا قائلاً: "لا نجاة إلا لمن ركب السفينة". أفلا نستجيب لهذا النداء معاً؟
لنحاول الآن متابعة الآيات الكريمة التي تذكر بتوظيف المسلم بمهمة التبليغ وثوابه الدنيوي والأخروي لقيـامه بوظيفته حق القيام. يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾(آل عمران:104).
بمعنى لتتكون منكم جماعة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر دائماً؛ فيدعون الناس إلى الخير ويجنّبونهم الشر، ويبينون لهم الحسنات ويكونون مثال الصدق والاستقامة، حتى إنهم يتجنبون السيئات تجنبهم الثعابين والعقارب. وبتعبير آخر يكون كل واحد منهم كالنجم القطبي في المجتمع لتهتدي بهم سفينة المجتمع التي تمخر عبـاب بحر الحياة الاجتماعية إلى سواء السبيل، فتُنظم القيادات وتوزع المسؤوليات وفقهم. وبهذا تُقلل الانحرافات والتخلفات إلى أصغر حد ممكن. فهذه الجماعة الرائدة تكون ملتحمة مع هذه الوظيفة إلى حدِ أن الذين يتفرسون فيهم لا يجدون أنفسهم إلا أنهم أمام مجسَّم الأمر بِالمَعروفِ والنْهي عَن المُنكَرِ وبذلك يكونون موضع ثقة وتصديق. فإن لم تكن ضمن مجتمع جماعة تتصف بهذه الصفات وتستمر عليها، فاقرأ على ذلك المجتمع السلام، فقد انتهى أمره ولن يهتدوا إلى الصواب طالما ليس فيهم مثل هذه الجماعة.
وبعكسه إن كان في موضع ما جماعة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فالله سـبحانه وتعالى ضامن أن يحفظ أهل ذلك الموضع من كل المصائب السماوية والأرضية. نعم، إن الله سـبحانه ضامن؛ إذ ليس غيره يقدر أن يضمن ذلك قط، وذلك بنص القرآن الكريم: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾(هود:117). فأقول استناداً إلى بيان القرآن الكريم وأقوال جميع الأنبياء والأولياء العظام: إن الله جلّ وعلا لا يُنـزل مصيبةً على موضع يؤدّى فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. حتى لو استحق المجتمع ذلك العقاب فالله سبحانه يرفعه عنهم لأجل تلك الجماعة الرائدة، لشدة ارتباط قلوبهم به سبحانه. إذ لا تمضي دقائق عمرهم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم في وجل واضطراب مستديمين، حتى استولى عليهم هذا الأمر وأصبح شغلهم الشاغل لا ينفكون عنه؛ في مأكلهم ومشربهم ومنامهم ويقظتهم، يتفكرون: كيف نبلّغ هذا الأمر؟ ومتى؟ ولمن؟ فكأن هذه الحالة سرّ وجودهم. وطالما أمثال هؤلاء من عباد الله الذين نذروا أنفسهم لله يصولون ويجولون في صفوف مجتمع ما، فهم في أمان لا تصيبهم مصائب وبلايا سماوية وأرضية. لذا إن كنا نريد أن نكون في أمان من المصائب السماوية والأرضية فعلينا العودة فوراً إلى تسلم وظيفتنا التي خُلقنا لأجلها.. وعلينا أن نعرف قطعاً أن المصائب النازلة تنـزل بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولئن كنا نريد دفع تلك المصائب والبلايا فلا يتحقق ذلك إلا بأداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلا تحوز عبادة أخرى على هذه الخاصية. وقد يهلك الله شخصاً أو جماعة أو قوماً و يخسف بهم الأرض، وهم يذكرونه ويعبدونه ويتلون الأذكار آناء الليل وأطراف النهار ويطوفون ببيته الحرام إلا أن يكون ذلك الشخص أو الجماعة أو القوم مهمومين بأداء مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلقين عليها، وعندها يتعهد الله سبحانه تلك البلدة ويحفظ أهلها من الهلاك.
ولأجل هذا نجد في بعض المصادر روايات إسرائيلية مفادها: أن قوم لوط عليه السلام أُهلكوا وكان فيهم ألوف العباد والزهاد القائمين الليل الصائمين النهار، ولكن ما كانوا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر. والله أعلم كم من قائم بالليل وصائم بالنهار كان في أثناء هلاك أصحاب الأيكة قوم شعيب عليه السلام.
وفي مقابل هذا لا نجد قوماً قط أُهلكوا وفيهم مَن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. ولا يذكر التاريخ ولو مثالا واحداً على هذا. وسنفصل هذه المسألة لدى بحثنا عن الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الواردة في هذا الشأن.
يمكننا أن نقيّم حقيقة التبليغ والدعوة في الأرض والحاجة الماسة إليها من زاوية أخرى بالآتي:
إنه بمقتضى خلافة الإنسان في الأرض، فقد منحه الله سبحانه وتعالى القدرة على التصرف في الأشياء وبوّأه مكانة عالية في خلافة الأرض واهباً له إرادة من إرادته. فلا "أنانية" في أيّ مخلوق إلا في الإنسان. فهو بهذا "الأنا" والخواص الموهوبة له يبلغ إدراك حقيقة هويته وذاته. وذلك بالتعرف على أسماء الله الحسنى وصفاته الجليلة بتجلياتها المتنوعة. لأن "الأنا" المعطى له ما هو إلا وحدة قياسية ليُشعره بالتملك والحرية، فيستطيع به أن يدرك ربَّه ومالكَه وقدرته على كل شيء، وذلك بوضعه خطوطا افتراضية لمُلكه ومَلَكاته النسبية بالقياس إلى مطلقات صفات الله الجليلة.
وهكذا فإعطاء هذه الميزة والخاصية للإنسان يعني قبوله خلافته منذ البداية. ومعلوم أن الله سبحانه قد خلق آدم عليه السلام بعد خطابه الملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي اْلأَرْضِ خَليفَةً﴾(البقرة:30) وأعطاه حق التصرف في الأشياء وعيّنه خليفة في الأرض. والخليفة لا يستطيع أن يتجاوز الحدود المرسومة له من قبل من استخلفه، تلك الحدود التي رسمتها الأوامر الإلهية المبلّغة إلى أنبيائه الكرام. ومتى ما عمل الإنسان بمقتضى تلك البينات والأحكام الإلهية يكون مؤدياً مهمة الخلافة على أفضل وجه.
 يروي الحسن البصري رضي الله عنه حديثا مرسلا يوضح هذا المفهوم: "مَن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفةُ الله في الأرضِ وخليفةُ كتابه وخليفة رسوله".[2]
إن واجب كل إنسان هو معرفة الله سبحانه وتعريف الآخرين به تعالى وإظهاره بأطواره وأحواله أنه لله سبحانه. وكذا من الواجب أيضاً معرفة رسوله وكتابه والتعريف بهما. وكذا تحويل أوامر الله وأوامر رسوله إلى حياة معيشة ضمن هذه الوظيفة. علماً أن هذه الوظائف هي غاية وجود الإنسان. بمعنى أن الإنسان بقدر أدائه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون منجزاً وظيفته الملقاة عليه. وجميع هذه الأمور وسائل مهمة لبلوغ الإنسان خطوة فخطوة إلى رضى الله سبحانه وتعالى.
تروي درة بنت أبي لهب رضي الله عنها: "قالت: قام رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: يا رسول الله أيّ النّاس خير، فقال صلى الله عليه وسلم: خير النّاس أقرؤهم وأَتقاهم وآمَرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأَوْصَلُهم للرّحم".[3]
نعم، إن خير الناس من يأمر بالمعروف وينشر الخير والفضيلة حتى يصبح ويمسي به، وينهى عن المنكر باذلاً قصارى جهده لمنع السيئات، متقياً رب العزة، جاعلا حياته المعاشة وفق ما يقتضيه اندماج أوامر القرآن الكريم والشريعة الفطرية، أي ينظر إلى الأشـياء والحوادث من زاويـة الحقائق المنبجسة من القرآن الكريم، شفيقاً على الخلق، واصلاً للرحم. وهذه هي أهم الوظائف.
فإن كنا حقاً نستشعر برباط العلاقة مع إنساننا الحاضر ونعتقد أننا نعطف عليه ونحتضنه بالرحمة والشفقة، فإن أحسن دليل على صدق تصرفنا هذا هو أداء ما يجب علينا من وظائف نحوه، ولا شك أن العمل المقدّم في هذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا علينا السعي الجاد لأداء هذه الوظيفة تجاه الإنسانية جميعاً.
ثم إن مَن ينهض بهذه الوظيفة كائناً مَن كان يكون ضمن الثناء الرباني، إذ يقول تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾(آل عمران:113-114)
بمعنى أن أي إنسان كان إذا ما أدى هذه الوظيفة وكان مؤمناً بالله واليوم الآخر يحظى بالثناء القرآني. نعم، أليست هذه الآية الكريمة وأمثالها تسوقنا إلى الآمال العظيمة؟
إن إنساننا في الوقت الحاضر أحوج ما يكون إلى المحبة والشفقة والكلام الطيب والصوت الأنوس الحنون بدلاً عن القسوة والعنف والضرب والقتل. فالمنتظَر منا اليوم خفض جناح الرحمة والشفقة على الجميع حتى نسمع أنّاتهم في قلوبنا، وتستشعر قلقهم واضطرابهم في نفوسنا، فتشاركهم في الأفراح والأتراح. ومتى ما تحقق هذا فقد تحقق إذن عمل مهم تنتظره الإنسانية.
يشاهد في الوقت الحاضر عدد هائل من النـاس -يدفعنا إلى الإعجاب- اهتدوا واختاروا الإسلام ديناً لهم سـواء في الشرق أو في الغرب. ويشاهد أيضا في داخل البلاد وخارجها عودة إلى الديـن تحير العقول. فالمساجد والمصليات التي نسيت أو تنوسيت في الأمس أصبحت الآن جزءاً لا يتجزأ من الحياة. وحيث إن هذا الأمر عام وشامل فقد انتشر على الأرض جميعا بسرعة. ولئن كان كل هذا يعدّ في وقتنا الحاضر أمراً ذا بال -وهو كذلك- فإنه يدل على أن القلوب إنما تُفتح وتُغلق بالشفقة. وأن كل ما يثير الحقد والبغض لم يأت بخير سابقاً كما لن يأتي به حاضراً ومستقبلاً.
ولقد سمعت وشاهدت الكثيرين من الذين اهتدوا حديثاً أنهم لو كانوا قد قتلوا بالأمس ما كانوا لينعموا بهذه الأذواق الروحية اللطيفة التي تفيض اليوم من الإيمان، حتى كانوا يرددون مرات ومرات: "الحمد لله، لم نُقتل كفرد من أفراد الجبهة المقابلة في أيام الفوضى والإرهاب التي عمّت البلاد، وإلاّ لكنا خسرنا الدنيا والآخرة".
وإنه لذو مغزى عميق ما يقوله صحابي كريم اهتدى حديثا إلى الإسلام، مخاطباً صحابياً آخر عاتبه ولامه على قتله في الجاهلية أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنت تلومني لعملي ذاك، ولكن الله جل جلاله قـد أدخله الجنة بيدي لفوزه بالشهادة، فماذا لو كنت أنا المقتول وأنـا على الكفر حينذاك؟ بمعنى أنني كنت سأخلد في النار!
وأنتم كذلك إذا ما أصغيتم إلى من نجا من الإرهاب والفوضى واهتدى فلازم مصلاه، تسمعون الصوت نفسه. وفي الحقيقة أنني أترقب بلهفة ماذا يقول الذيـن لجأوا إلى القوة في حل الأمور إذا ما رأوا أولئك المجرمين السابقين قد أصبحوا اليوم خاشعين لله في صلاتهم يبكون؟
أورد مثالاً حياً لتوضيح هذا الأمر من خير القرون:
عمرو بن العاص عاش عمراً مباركاً طويلاً، كان هذا القائد الجسور والسياسي المحنك قلِقاً قلقاً شـديداً "وهو في سـياقة الموت‏.‏ فبكى طويلا وحوّل وجهه إلى الجدار‏. فجعل ابنه يقول‏:‏ يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ‏؟‏ أَمَا بشرك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بكذا ‏؟‏ قال فأقبل بوجهه فقال‏:‏ إن أفضل ما نُعِدُّ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسـول الله‏.‏ إني قد كنت على أطباق ثلاث‏.‏ لقد رأيتُني وما أحد أشد بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني‏.‏ ولا أَحَبَّ إليّ أن أكون قد استمكنتُ منه فقتلتُه‏.‏ فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار‏.‏ فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ ابسُطْ يمينك فلَأُبايعْك‏.‏ فبسط يمينه‏.‏ قال فقبضت يدي‏.‏ قال: ‏"‏ما لك يا عمرو‏؟‏‏"‏ قال قلت‏:‏ أردت أن أشـترط‏.‏ قال‏"‏ تشترط بماذا‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ أن يُغفَر لي‏.‏ قال‏"‏ أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله‏؟‏ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها‏؟‏ وأن الحج يهدم ما كان قبله‏؟‏‏"‏ وما كان أحد أحب إليّ من رسـول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجلّ في عيني منه‏.‏ وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا لـه‏.‏ ولو سُئِلتُ أن أصفه ما أطقت‏؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه‏.‏ ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة‏.‏ ثم وَلِينا أشياءَ ما أدري ما حالي فيها‏.‏ فإذا أنا مت، فلا تصحبني نائحة ولا نار‏.‏ فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا‏.‏ ثم أقيموا حول قبري قـدر ما تنحر جزور‏.‏ ويقسم لحمها‏.‏ حتى أستأنس بكم‏.‏ وأنظرَ ماذا أراجع به رسل ربي‏."[4]
وقد شهدنا كثيراً، الحامدين الشاكرين الله لعدم موتهم وهم يجتازون دهاليز تلك الفترة المعتمة، وتوجههم إليه سبحانه بالإيمان كتضرع عمرو بن العاص رضي الله عنه وحمده لله لخلاصه من الموت في تلك الفترة. فلئن استطعنا أن نهيئ لهم في الدورة الثانية والثالثة حياة مليئة بأشواق الإيمان نكون قد ضمنّا لهم قضاء لحظاتهم الأخيرة من حياتهم أيضاً تدفق بنشوة الحمد والشكر.
إنه لا حدود للوظيفة. ولا سيما من نـذر نفسه ليكون فدائي المحبة.. فدائيو المحبة هم الذين نذروا أنفسهم لتحبيب الله إلى الإنسانية جميعاً. لا همّ لهم إلاّ إيجاد سبل تحبيب الله للناس وتمهيد طرق الوصول إلى الحياة الخالدة. وقد كسبت هذه الوظيفة الملقاة على عاتق هؤلاء الأبطال في الوقت الحاضر أبعاداً جادة أخرى؛ لأن غالبية الناس يعيشون حياة مقطوعة الصلة بالله سبحانه على الرغم مما يشاهَد من عودة إلى الإسلام في مناطق مختلفة ومبشرة بالأمل. فإنقاذ هؤلاء من مثل هذه الدوامة أمرعسير جداً وجليل في الوقت نفسه. فكم هو عسير ومؤلم مخاطبة إنسان مصروع لحد الجنون مغمور في مستنقع آسن مميت: كن كما أنت عليه.. كذلك من العسير جداً إيقاظ هذا الجيل الذي يتخبط في هذا المستنقع وجلب انتباهه إلى أن يحافظ على صفاء قلبه وتوثيق صلته بالله. بل هو أعسر منه. ولكننا مضطرون إلى اجتياز هذه المشاق وتخطي هذه الصعوبات. فالمحبة والتسامح من الوسائل المهمة لتجاوز هذه الصعاب. لأن أغلب الناس يواجه إما بالفوز بالحياة الأبدية أو خسرانها. ونحن نريد أن يفوزوا بحياتهم الأبدية. والحال أنهم لم يدركوا بعدُ عِظَم ما هم فيه من المهالك، ولهذا يستغربون مما نبذله من جهد وهمّة على إنقاذهم، بل أحيانا يسخطون علينا ويصدوننا. فالقيام بعمل مماثل يدفعهم إلى حرمانهم من الحياة الأبدية. لذا فإن تصرفاتنا ينبغي أن تخالف تصرفاتهم وأعمالهم؛ إذ لو علموا حراجة وضعهم لأدركوا سـبب اهتمامنا وبذلنا الجهود، ولَسَعَوا إلينا سعياً حثيثاً، ولغمروا قلوبنا بالبهجة والسرور. لذا ينبغي الاستمرار في الإيقاظ والتنبيه على الرغم من استغرابهم وصدّهم لنا. وهكذا فعل الأنبياء وكذا الأولياء والأصفياء وهم شموس الإنسانية وأقمارها. فمثلاً:
سيدنا نوح عليه السلام، كيف اهتاج وتفجّع من عصيان ابنه في عدم ركوب السفينة معه رغم إلحاحه عليه، ثم كيف توسل إلى الله سبحانه وتعالى ولاذ به لإنقاذه من الغرق حتى حال بينهما الموج؟[5] ففي وقتنا الحاضر مئات من الأحداث أمثال هذه تدفعنا إلى التفجع نفسه.
وسـيدنا إبراهيم عليه السلام كان يهمه كثيراً ويقض مضجعه عبـادة أبيه للأصنام، فتوسل بكل الوسائل الممكنة لإفهامه الحقائق.[6]فسلوك الأنبياء هذا يعلّم الشيء الكثير لفدائيي المحبة في عصرنا الحاضر.
وسيدنا الرسـول صلى الله عليه وسلم الذي خاطب عمّه الذي حماه طوال أربعين سنة: "أَيْ عَمِّ قل لا إله إلاّ الله كلمة أُحَاجُّ لك بها عند الله".[7]
هذا الموقف الجليل للنبي المحزون الذي كاد يهلك نفسه لهداية الناس، يجب أن يكون ماثلا أمام أعيننا دون مغادرة. وأنه صلى الله عليه وسلم لم يقابل قومَه الذين حاصروه وآذوه بشتى صنوف الأذى إلا بالمحبة والتسامح والرحمة،[8] قابلهم بالمحبة وأصبح هو الظافر؛ لأنه بهذه المعاناة والمكابدة قدمدّ جسراً يؤدي إلى اغتنام مليارات الناس حياتهم الأبدية.
نعم، إن هـذه الوظيفة السـامية وظيفة منوطة تماماً بفدائيي المحبة والشفقة… وظيفة الذين يرغبون عن أذواق عيشهم ليتنعم الآخرون. إنها وظيفة من لا يتنعم حتى في الجنة إن لم يرشد أفراد مجتمعه إلى طريق الجنة.. مثلما قاله مثال الشفقة: "لقد ضحيتُ حتى بآخرتي في سبيل تحقيق سلامة إيمان المجتمع، فليس في قلبي رغَبٌ في الجنة ولا رهَبٌ من جهنم، فليكن سعيد بل ألف سعيد قرباناً ليس في سبيل إيمان المجتمع التركي البالغ عشرين مليونا فقط بل في سبيل إيمان المجتمع الإسلامي البالغ مئات الملايين. ولئن ظل قرآننا دون جماعة تحمل رايته على سطح الأرض فلا أرغب حتى في الجنة، إذ ستكون هي أيضاً سجناً لي، وإن رأيت إيمان أمتنا في خير وسلام فإنني أرضى أن اُحرق في لهيب جهنم؛ إذ بينما يحترق جسدي يرفل قلبي في سـعادة وسرور."[9] وهكذا دأب الفدائيين، أما الصديقون فدأبهم: ليكبر جسدي بكبر جهنم لئلا يدخلهاعبد من عباد الله.
إن تحويل هذه الأقوال إلى أفعال عسير جداً، ولكنها جديرة لإفهام مدى الشفقة الواسعة سعة البحار الزاخرة، لحالة جيشان الروح ولو آناً من الزمان.
وما أعظم شفقة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي سينادي في هول يوم المحشر "أمّتي.. أمّتي" متضرعاً خاشعاً سـاجداً لله حالَما يدرك أن من أمته من سيدخل جهنم.. فلا يرفع رأسه من السجود إلا عندما يخاطَب: «يَا محمّد ارفع رأسك سَل تُعطَهْ واشفعْ تُشَفَّعْ».[10] فهذا تعبير عن شفقة ورحمة لا نظير لهما للرسول العظيم صلى الله عليه وسلم تجاه أمته. وفي الوقت نفسه فهو مثال لأعظم فدائيي المحبة. فلا يكون فدائي المحبة إلاّ من ينسى حظوظه البشرية وسعادة عائلته ومشاغله الدنيوية في سـبيل هموم الناس وآلامهم ومن يتعالى على مطالبه. بل لا يمكنه أداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه الأكمل إن لم يكن فدائي المحبة بحق.
الهوامش
[1] "كلستان" لسعدي الشيرازي (ترجمة: محمد الفراتي، روضة الورد) ص 9.
[2] الفردوس للديلمي، 3/586.
[3] المسند للإمام أحمد، 6/ 432؛ شعب الإيمان للبيهقي، 6/220.
[4] مسلم، الإيمان 192.
[5] انظر إلى: سورة هود، الآيات 42-43.
[6] انظر إلى: سورة الأنعام: الآية 74.
[7] البخاري، مناقب الأنصار40؛ الترمذي، تفسير القرآن 28-29؛ النسائي، الجنائز 102.
[8] مجمع الزوائد للهيثمي، 6/35؛ شرح الشفا (للقاضي عياض) لعليّ القاري، 1/279.
[9] سيرة ذاتية لبديع الزمان النورسي، ص:457.
[10] البخاري، التوحيد 36، تفسير القرآن 5؛ مسلم، الإيمان 326-327؛ الترمذي، القيامة 10.
3- التبليغ أثمن هدية

إذا أردنا أن نعقد نشبه وظيفة التبليغ بتبادل الهدايا بين الناس يمكننا أن نسرد الآتي:
إنكم تتهادون فيما بينكم في المناسبات والأعراس، ولاشك أنكم قبل تقديم الهدية تفكرون ملياً في اختياركم لها ومدى ملاءمتها للشخص المُهدى إليه. وهذا أمر معتـاد ومفيد في الوقت نفسه؛ لأنكم بها تقضون حاجة وتضمنون محبة. وكذلك الأمر لدى زياراتكم لمن يشاركونكم في الحياة الاجتماعية ورفقائكم في الدرب نفسه، فعليكم أن تكونوا دقيقين في اختيار ما ستقدمونه إليهم بمثل اهتمامكم ودقتكم في تقديم الهدايا.
وعلينـا ألاّ ننسى أن أحوج ما يحتاجه إنسان اليـوم: قليل من الكلام الطيب والنصح لـه. وكذا فإن أثمن هديـة في الوقت الحاضر هي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإن أول ما علينا لأجل تحقيق هذه الوظيفة على الوجه الأكمل معرفة الشـخص المخاطَب أو الأشخاص المخاطبين وتشخيص ما يحتاجونه تشخيصاً جيداً؛ إذ بخلافه سيكون الأمر كأنك تريد إلباس ثوب لشخص يضجر منه ولا يُعجبه ولا يليق به وإن كان من أفخر الأقمشة وأجودها. فعلى الرغم من أن هذا الأمر معروف إلاّ أنه يفعل فعل المنكر. فلا يعني شيئا لمن ابتلي بأفكار شتى ومذاهب ضالة أن تعرج به في أرجاء السماوات العلى قبل أن تُصفّي مفاهيمه. إذ كيف تتلألأ نجوم السماء في مرآة وجدان من انكسف قلبُه وأظلمت روحُه؟ ومن هنا فإن تشخيص حاجة أي إنسان كان من أهم الأمور؛ كي يؤثر الكلام فيه وتجدي المحاورة معه، وربما تهزّه هزاً ولعلها تكون سبباً لاسترشاده. ولربما حسراتكم المليئة بالأنّات المؤلمة هذه تكون سبباً في ملء خوائه المعنوي ودفع حاجته المعنوية. ولا هدية أغلى ولا أثمن من تلك الأنّات والاستغاثات المليئة بالأحزان مع القول اللين الذي يعيد إليه الصواب. بل ربما تكون تلك الاستغاثة سبباً في إيقاف جميع تصرفاته الخاطئة في المستقبل وتسوقه مع القول اللين إلى سبيل الاستقامة والصواب. فالهدية التي تكون سببا لتوجّه المرء من السيئات إلى الحسنات هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالذات. وأحسب أنها أجلّ الهدايا.
لقد دامت أيام محاصرة خيبر طويلا دون أن تسفر عن شيء؛ حيث كان يهود خيبر يقاومون الحصار بكل طاقتهم. وذات يوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية -أو قال: ليأخذن- الراية غداً رجل يحبه اللهُ ورسوله، -أو قال: يحب اللهَ ورسولَه- يفتح الله عليه".[1] فهذه أعظم بشارة للصحابة الكرام، إذ كان كل منهم يتمنى هذه المنـزلة. علماً أن كلاً منهم كان يفضّل أخاه المؤمن على نفسه في الشؤون كلها، حتى إن بعضهم عندما قُدّم إليه قدح من ماء يشربه نظر إلى مَن حوله فقال للذي جاء به: ويحك كيف أشرب أنا وهؤلاء يلتفون حولي؟ أعطه مَن شئتَ منهم. فإن كان يصح في وقتٍ إيثارٌ ففي مثل هذا الوقت، ومات عطشا.[2] وهكذا كان يؤثر أخاه المؤمن على نفسه حتى يقدر أن يملّكه ما يمتلك حباً وكرامة. إلا أن الكلام الذي نطق به الرسول الكريم في هذا اليوم هو بشارة ضمان محبة الله ورسوله، لا يفوّته أحد ولا يُؤْثِر فيه على نفسه أحد أحداً.
والخلاصة أن كل واحد كان يريد أن يحظى بهذه المرتبة. حتى إن سيدنا عمر ذا الفطرة النادرة قال: "ما أحببت الإمارة إلا يومئذ قال فتساورت لها رجاء أن أدعى لها".[3] ذلك لأن فيها ضمان محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. لذا لم يغمض للصحب الكرام جفن حتى الصباح انتظاراً لهذه البشارة العظمى، فالجميع يترقبون لمن تُعطى الراية؟ وفي الصباح الباكر انتظروا بلهفة البشارة فأخذوا موضعهم في الصف الأول من صلاة الفجر حيث ستُسلّم الراية عقبها. وفعلا بعد أن أنهى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الصلاة تركزت العيون إليه في انتظار: ماذا سيخرج من بين الشفتين المباركتين؟. نعم، وقد نطق ذلك الفم الذي يفوح بطيب الجنة باسم مَن هو أسعد إنسان في الدنيا وأكثرهم حظاً. فقد آن أوان النطق بهذه البشارة العظمى حيث قد بلغ الاهتياج ذروته. فقال صلى الله عليه وسلم بصوته الرقيق الشفيق: "أين علي؟" وعندها عُرف الأمر أن الإنسان المحظوظ هو سيدنا علي رضي الله عنه. ولكن مازال هناك أمل يستشرف له الصحابة الكرام وهو غياب سيدنا علي بسبب عينه الرمداء، فأجابوا الرسول صلى الله عليه وسلم مساقين بهذا الأمل: إنه هاهنا مريض يرقد. فدعاه الرسول ومسح عينه بإصبعه المباركة بعد أن وضعها في فمه المبارك فطابت تلك العين حتى لم يذق سيدنا علي طوال حياته ألماً في عينه.
وهكذا وجدت الراية صاحبها المحظوظ، فتسلمها سيدنا علي وتوجّه نحو خيبر. ولكن توقف فجأة مستفسراً من الرسول صلى الله عليه وسلم على أي شيء نحاربهم؟ وعلى ماذا ندعوهم؟ فأجابه سيد الكونين صلى الله عليه وسلم: "انفذ على رسلك حتى تنـزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لأن يهدىَ الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم".[4]
ومنذ ذلك الوقت لم يدخل جيش الإسلام إلى موضع وفي أي وقت كان إلا وكأن كل جندي في أذنه صدى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا فيتلقاه واجباً عليه تنفيذه.
ففي العهود السابقة نُفّذ نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق هذا الحديث الشريف وأمثاله من الأحاديث الشريفة من جهة، وما عمله الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته من جهة أخرى. بمعنى أن طلائع الإرشاد يدخلون البلاد التي ستفتح وينشرون الحق ويهيؤن الجو لصالح المسلمين، فإذا استجاب أهل تلك البلاد إلى الأمر فسيدخلون الإسلام وتعدّ بلادهم ديار الإسلام. ولكن إذا قاوموا وجابهوا المرشدين بمعارضة وأعاقوا نشر الإسلام، يُحسم الأمر بالفتح وفق ما ذكرنا سابقا من القواعد. أي يبلّغون الإسلام أولاً؛ لأنهم يعلمون يقيناً أن إرشاد رجل واحد خير من إنفاق ملء الأرض من حُمر النَّعم في سبيل الله.
ومن هنا نرى أن أجمل هدية يقدمها المسلم باسم الإنسانية، هو تحقيقه لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. نعم، إن أداء هذه الوظيفة بإحسان ولطف لهو أعظم هدية وأثمنها.
الهوامش
[1] البخاري، الجهاد 121، 143، فضائل أصحاب النبي 9؛ مسلم، فضائل الصحابة 32، 35؛ الترمذي، المناقب 20.
[2] انظر: شعب الإيمان للبيهقي، 3/61.
[3] المسند للإمام أحمد، 2/384؛ الطبقات الكبرى لابن سعد، 2/110.
[4] البخاري، فضائل أصحاب النبي 9؛ مسلم، فضائل الصحابة، 34.
4- التبليغ يتطلب الاستمرار
إن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتطلب الدوام والثبات. وقد وضحت الآية الكريمة الآتية هذا الأمر بقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّـاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾(آل عمران: 110) فإذا ما أنعمنا النظر إلى عبارات الآية الكريمة تتوضح أمامنا قرآنية ما ذكرناه من أمور.
إن كلمة ﴿كُنْتُمْ﴾ تعني "أصبحتم" ولا تعني "أنكم سـابقاً كنتم".. فاختيار هذه الكلمة ذو مغزى دقيق. بمعنى أن هناك "كينونة"؛ أي الوجود من بعدُ. بمعنى: أصبحتم هكذا. ولم تكونوا هكذا منـذ الأزل. ومن المعلوم أن الكيفية الحاصلة في الأزل لا تـزول. وإنما الذي يـزول هو ما يحدث ويحصل من أوضاع. بمعنى أن دوام ذلك الوضع و ثباته مشروط بموجودية الظروف التي تُكسِب تلك الحالة.
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ أي أصبحتم خير أمـة بين الأمم. فهذا الحدوث، كسبُ حادث عَرَضي، أي أن زواله ممكن أيضاً. لأن الخير ليس نابعاً من ذاتيتنا قطعاً. إذ لا فرق بيننا وبين المولود في موسكو أو في غيرها من الأماكن، فكلنا مخلوقون من قطرة ماء. وليس هناك إلاّ عامل معنوي وتأثير عَرَضي يوجّه كياننا المعنوي وماهيتنا نحو الخير، بحيث يجعلنا نتميز عن الناس الآخرين. والمقصود هنا من "نحن" هو "الأمة" بكاملها. فهذه الأمة ليست خير أمة من الأزل. بل وُضِعَتْ فيها هذه "الخيرية". وليست مما لا تفارقها ولا تنفك عنها. فهناك حالات تحققت من قبلها فأصبحت خير أمة. أي كونها خير أمة لا تعني أنها ستبقى أبداً هكذا. فإن لم تراع هذه الأمة تلك الحالات التي جعلتها خير أمة، ستضيع تلك الخيرية.
فالشرط الأول لتلك الخيرية هي: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَن الْمُنكَرِ﴾ بمعنى أنكم إذا قمتم بالأمـر بالمعروف والنهى عن المنكر فإنكم تصبحون خير أمة. ولكن لنرى المفهوم المخالف للآية الكريمة، وهو: أنكم إن لم تقوموا بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تصبحوا شر أمة. ومما يؤيد هذا المعنى أحاديث شريفة كثيرة وروايات متعلقة بالصحابة الكرام. فمثلاً:
إن هذه الأمة التي كانت تتفضل على الآخريـن بتقبيل ركاب أفراسها، ظلت عزيزة الجانب طالما أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر. ولكن بعد ما تخلت عن هذه الوظيفة المقدسة أصبحت ذليلة مهينة تتوسل بتقبيل ركاب الآخرين. ولعل السبب الأسـاس في الذل والهوان الـذي يتجرعه العالم الإسلامي حتى لا يؤبَه له في مختلف المستويات الاجتماعية هو تقصيره في هذه المهمة الحياتية.
نعم، إذا لم توف هذه المهمة الجليلة حقها تنقطع برَكة الوحي. وتصبح الأفكار سائبة عقيمة، والمحاكمات العقلية ضعيفة واهية لا تأثير لها. وكل كلمة تفوه بها تصبح جافة غير مجدية، لا تترك أثراً إلاّ الإبهام الذي فيها، حتى لا تبقى فيها رشحة من حقيقة. وكل هذا علامة انقطاع برَكة الوحي. ومتى ما ينقطع مصدر الإلهام في التفكير والتفكر يبدأ التراجع والتقهقر حتى في ميدان الثقافة والتكنولوجيا.
وقد غدا قدراً مقدوراً لا يتبدل للمسلمين المحرومين من بركة الوحي، احتياجهم إلى غيرهم في كل الميادين والساحات حتى غدوا شحاذين سَألَة في أبواب الآخرين، يرقبون ما في أيديهم. والحقيقة أن بداية التقهقر والانحطاط تتزامن مع انهيارنا الداخلي.
وسنسعى في الفصول القادمة لتوضيح هذه المسألة بأمثلة متنوعة كثيرة. والآن نعود إلى الموضوع لتناول القيود الموجودة في الآية واحداً واحداً:
لقد ذكرنا أن مهمة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تقتضي الدوام والثبات كما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَن الْمُنكَرِ﴾ والحديث الشريف يؤيد هذا المعنى: "من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده فإن لم يسـتطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".[1]
والمنكر: هو كل ما يستقبحه الإسـلام، لذا فالمسلم عندما يجابه ما يستقبحه الإسلام فأول ما عليه أن يؤديه هو تغيير ذلك المنكر. أما كيفية التغيير فيختلف حسب وضع المنكر. والمهم في الأمر هو بذل الجهد في التغيير. ذلك لأنه يحتاج إلى الثبات والدوام. والذي يجب على المؤمن في تغييره ذلك المنكر أن يغيّره أولاً بيده، فإن لم يستطع باليد فبلسانه سواءً بالكلام أو بالكتابة. وإن لم يستطع فبقلبه، أي ببغضه ذلك المنكر. وذلك أضعف الإيمان. وليس بعد ذلك من خردل من الإيمان. لأنه يعني الرضا بالمنكر المشاهد.
أما إنكار القلب وبغضه فيمكن أن نفهمه كالآتى: إن الإنسان إذا اغتاظ وغضب على أحد يحاول جاهداً ألاّ يجالسه في مجلس واحد، وألاّ يتبادل معه الفكر والرأي؛ لأن المحبة والعداء لا تجتمعان في قلب واحد وفي آن واحد، ولأن الإنسان لا يميل قلباً إلى مَن يبغضه. فالمؤمن الذي يغضب على منكر ما ويبغضه يحتفظ بشدّه الروحي ويصون قوته المعنوية، ولكن الاكتفاء بهذا القدر من الانفعال ليس هو المطلوب من المؤمن، بل البغض القلبي هذا لا بد وأن يعقبه عمل باللسان أو باليد. علماً أن هذا النفور القلبي الجزئي من المنكر علامة على وجود الإيمان؛ إذ لا يستصوب مؤمن قط ما لا يستصوبه الإسلام من منكر. وحتى إن كان المؤمن يعايش من يرتكبون المنكر في نطاق المواطنة فعليه ألايتغاضى عن هذا والقصور. وبخلافه يُعدّ منهم. ولهذا فالمؤمن يكون دوماً في شدّ روحي وفي قوة معنوية عالية. وهذا الأمر هو ما تُعلمنا الآيةُ الكريمة والحديث الشريف الذي أوردناهما.
نعم، قد يؤدى الإنسان هذه المهمة أحياناً باليد واللسان مع زوجته وأولاده، وعندها تتكلم اليد وينطق اللسان. ولكن قد يقتضي الأمر أن تُؤدَّى هذه المهمة باللسان في الأماكن التي تعجز اليد عن الكلام. وعلى الأغلب تنفّذ هذه الطريقة مع الأقربين. ولئن عجز المرء عن هذا أيضاً فعليه أن يراجع علاقاته القلبية معهم. ويمكن أن يطلق على هذا معنى من معاني المقاطعة. لأن الذي يفعل المنكر قد قطع علاقته مع ربه، والمؤمن يأخذ سلوك المقاطع مع مَن قطع علاقته مع ربه ويبتعد كلياً عن كل ما يومئ إلى تقديره واحترامه. حيث إنه مضطر لتنسيق علاقته مع أمثال هؤلاء على وفق ارتباطهم مع ربهم. أي يجب إعادة النظر في العلاقة والارتباط مع مَن قطع علاقته مع الله ورسوله.
وهكذا كان الصحابة الكرام. وكلام سيدنا عمر رضي الله عنه نموذج لما ذكرناه فعندما كانت الاستشارة مستمرة في شأن أسرى بدر قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ترى يا ابن الخطّاب؟ فقال: لا والله يا رسول الله ما أرى الّذي رأى أبو بكر ولكنِّي أرى أن تُمَكّنّا فنضربَ أعناقهم فتُمكِّن عليًّا من عَقيل فيضربَ عنقَهُ وَتُمَكِّنِّي من فلان نسيبا لِعُمَرَ فأَضربَ عنقه فإنّ هؤلاء أئمّة الْكفر وصناديدها".[2] علماً أن هذا الرأي لم يُقبل في الاستشارة إلاّ أنه أسلوب يستحق أن نقف عنده من حيث التعبير عن سلوك المؤمن تجاه المنكر، رغم أنه لم ينفّذ.
والمؤمن يتخذ مدى ارتباط من يقابله بربه مقياساً لارتباطه وعلاقته معه، فلا يكون صديقاً حميماً بالمعنى الحقيقي، ولا يوثق علاقته مع المبتوتى الصلة بربهم. وعلامة ذلك في أدنى حدودها بغض المنكر قلباً، ودوام هذا الانفعال القلبي. ولهذا نحن مضطرون إلى أن نتحرك كالصحابة الكرام. فإن كانت محبة الله ومحبة رسوله في كفة وفي الكفة الأخرى محبة القريبين لنا ولكنهم بعيدون عن الله، فمحبة الله ورسوله لا بد أن تُستشعر بكل ثقلها في قلوبنا.
والأمر ليس مسألة محبة فحسب. بل ينبغي أن يكون الحق والحقيقة فوق كل شيء في مسلك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وتُستعمل اليد أو اللسان حسب الاستطاعة، فإن لم يستطع الإنسان كل هذا، يقطع علاقته القلبية ويعيد النظر في علاقات الودّ مع المقابل. وليُعلم أن العلاقة مع أي شخص إن كانت تضادّ العلاقة مع الله ورسوله وتخالفها فسيقلب الأمر عليه دائماً ويهلكه ويفنيه.
والجهة الأخرى من الأمر هي شمول هذه المهمة، بمعنى أن دوام مهمة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من مسؤوليات الدولة الدائمة أيضاً؛ لأن الدولة من المؤسسات التي هي في موقع تغيير المنكر باليد، حيث إنها قادرة على تغيير المنكرات باليد كالفحش والخمر والقمار والاحتكار وما شابهها. فهناك مواقع لا ولن تصل إليها يد الفرد، وتصل إليها يد الدولة؛ فالفرد لا يمكنه أن يعاقب الزاني وشارب الخمر وممارس القمار، ولا يستطيع أن يصرفهم بيده عن هذا المنكر.
ولقد ذكرنا آنفاً ميدان مداخلة الفرد. أما هنا فنذكر إنسان العالم الخارجي. فهذه المهمة في هذا الموقع تتعهدها الدولة، لأنها لا تدخل ضمن نطاق تغيير الفرد للمنكر. فهي من مهمات الدولة، وعليها أن تؤديها ما بقيت. فإذا هي أرخت عنان الأمر فالشعب ينبهها ويذكّرها بمهمتها في الانتخابات مثلاً. وهذا أيضاً -من جهة- يولّد جزءاً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولنضرب مثلاً من خير القرون:
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة،[3] والقائد العام للجيش الفاتح لإيران في عهد عمر بن خطاب رضي الله عنه أصبح والياً على البلاد التي فتحها. شكى الناس سعداً إلى سـيدنا عمر بأنه نصب على بابه حرساً، والحال يجب ألاّ يكون شيء حائلاً بين الوالي والناس. وعندما سـأل سيدنا عمر: هل لديكم شكاوى أخرى؟ قالوا: إنـه لا يُحسن أداء الصلاة!![4] وهذا رأيهم، إذ لا يمكن أن نقبل أو نوافق بأن صحابياً جليلاً كسعد لا يُحسن أداء الصلاة بأركانها. ولكن الذي نريد أن نقف عنده هو إظهار أنه كيف اسـتطاع الناس أن يقوّموا الدولة ويراقبوها. فالشعب يقوّم الدولة دائماً، والدولة بدورها تراقب الشعب وتنضبط به، وبهذا تتوازن الأمور ويصان العدل. حيث إن الدولة تنجو أيضاً من الولوج في المنكرات مثلما ينجو منها الشعب.
فإذا ما قيّمنا العالم الإسلامي الحاضر ضمن هذه الأطر، لا يمكننا أن نقول أن الدولة وكذا الناس يؤدون المهمة التي عليهم. فالناس في الوقت الحاضر يرتكبون الرذائل بكل أنواعها، والدول تبقى في وضع اللامبالاة والمتفرجة عليها. حتى أنها تضع قوانين بأسماء وعناوين متنوعة للحفاظ عليها. وأوضح مثال على ذلك ما تُرتكب من منكرات في دول مختلفة حالياً، علماً أن وظيفتها الأساس منع المنكرات والحد من سوء الأخلاق. ولأجل تحقيقها لهذه المهمة، أي منع المنكرات، تستعمل القوانين الرادعة. فالفرد لا يمكن أن يعاقب السارق ولا أن يقيم الحد على الزاني. بل لا يمكن أن يقيم أيّاً من الحدود الجزائية باسمه. فلو أقام كل شخص الحد على غيره فهذا هو الفوضى واضطراب النظام بعينه.
و يمكن أن نستنتج من هذا أن للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حدوداً تخص الدولة لا يمكن أن يتجاوزها الفرد، وحدوداً تخص الأفراد وهي التي يمكنهم أن يؤدوها بالقلب واللسان.
فمثلاً: إفهام الناس العاقبة الوخيمة للزنا والقمار والسرقة والربا والاحتكار والسعي لمنع انتشار مثل هذه المنكرات في المجتمع وظيفة كل فرد ومسؤولية اجتماعية. بمعنى أن التغيير باليد تخص رجال الدولة بينما التغيير باللسان هو وظيفة كل مؤمن. وهذه الوظيفة تتعلق بالعلماء أكثر من غيرهم.
أما الذين يكتفون بالوضع الثالث أي البغض القلبي فهم العاجزون عن أداء المهمة على وجهها. فلئن كانت الأمة برمتها تكتفي بالبغض القلبي لِما يُرتكب من المنكرات في العالم فهي إذاً أمة عاجزة بائسة مسكينة.
ويمكن أن نقسّم هذه المهمة على الفرد نفسه كما قسمناها سابقاً على الأمة.
فهناك مواضع يؤدي الفرد مهمته باليد. مثلاً: محل للقمار غير مجاز من قبل الدولة. فالذهاب إلى صاحب المحل وإبلاغه بأني سأخبر الدولة عنكم، يعنى إزالة المنكر -من جهة- باليد. ولكن إن كان المحل مجازاً من قبل الدولة والفرد لا يستطيع إنكار هذا المنكر، فعليه أن يفهّم صاحب المحل بلسان لين أن هذا العمل منكر. وإن لم يستطع هذا أيضاً فعليه أن يعيد النظر في علاقاته مع هذا الشخص أي صاحب المحل ويقطع علاقته القلبية معه وينبّه الآخرين على القيام بمثل هذا الإجراء. وليس بعد ذلك أمر رابع.
توضح مما سبق جلياً، أن ﴿كُنْتُمْ﴾ في الآية الكريمة تفيد الدوام والثبات، وأنهما موجودان في جميع الأحوال.
فعلينا إنكار المنكر باللسان والقلب فيما إذا أهملت الدولة والأمة قاطبة واجبها المقدس. ولكن يجب ألاّ ننسى "أن الغلبة على المدنيين (المتحضرين) إنما هي بالإقناع وليس بالإكراه".[5]
الهوامش
[1] مسلم، الإيمان 78؛ الترمذى، الفتن 11.
[2] مسلم، الجهاد 58؛ المسند للإمام أحمد، 1/30-32.
[3] أسد الغابة لابن الأثير، 2/366؛ الإستيعاب لابن عبد البر، 2/513؛ الإصابة لابن حجر، 3/73.
[4] البخاري، الأذان 95؛ مسلم، الصلاة 158؛ المسند للإمام أحمد، 1/176، 179، 180.
[5] صيقل الإسلام لسعيد النورسي، ص 527
5- جوانب التبليغ المتوجهة إلى الحق سبحانه وإلى الخَلق
.إن مهمة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إما أن تؤدّى لوجه الله، أو تؤدّى بما شرعه الله سبحانه من إحقاق الحقوق بين الناس.
إن مسؤولية التبليغ والإرشاد مسؤولية كل فرد تجاه ربه. فكل فرد عليه أن يعتقد بأنه مكلّف بهذه الوظيفة، ويسعى لها سعيه للصلاة. ولا سيما وقد أُهملت هذه الوظيفة، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، حتى استولت المنكرات على المرافق كافة. وهذه المهمة الجليلة تحوز أهمية أكثر من الفرائض الشخصية، إذ لا يمكن الكلام حول الصلاة والزكاة والحج إن لم تُنجز هذه المهمة. وبخاصة في العهود المظلمة التي تُروّج فيها المنكرات ويُمنع المعروف، فالأمة قاطبة تكون مسؤولة في هذه الحالة.
ولا أعلم مهمة أجلّ من هذه المهمة في يومنا هذا، ولهذا أعتقد أن من نذر حياته لهذه المهمة فإن دنياه وآخرته ستكونان عامرتين بإذن الله. فكل شخص مضطر لأداء هذه المهمة الملقاة عليه سواء بالإفهام أو بالكتابة أو بالتأليف. وليؤدّها بأي طريقة كانت إلاّ أن عليه أن يؤديها حسبةً لله، ومنـزهة عن أغراض سياسية. ومن المعلوم أن تأثير هذا العمل ودوامه يكون بنسبة ما فيه من الإخلاص، وبمقدار ترفّعه عن الأغراض السياسية. ولا يمكن أن يعطى هذا العمل السامي ثماره من دون الإخلاص. فضلاً عن أنه سيكون وبالاً على صاحبه في الآخرة لحرمانه من الإخلاص. ولهذا فعلى القائم بهذه المهمة، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، أن يعمله حسب فحوى الحديث: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ".[1] أي لا بد أن يكون كل جهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ولا يداخله شيء آخر، سواء أكان القائم يقوم ببناء سكن أو مدرسة أو مبيت للطلبة أو أية مؤسسة أخرى تمليها ظروف تلك الحالات في المستقبل، فالغاية الأساس في كل ذلك يجب أن تكون بمستوى يليق بتحقيق هذه المهمة المقدسة.
 إن إنشاء مؤسسة وإحداث وحدة دَعَوية لابد أن تملأ الفراغ الروحي لدى الشباب وتعيد بناءهم المعنوي إلى هويته الأصلية وصفائه الأصيل، ليحول دون تسلل الإلحاد والفوضى والإرهاب وانتشارها في صفوفنا. فكل حملة من الحملات التي تنهض بها الأمة في سبيل الله هي في الحقيقة كسر لشوكة الملحدين والفوضويين وتفتيت لعزمهم. فهي الحل الوحيد لصدهم فكراً وعلماً ونشاطاً، بل لإزالتهم كلياً بإذن الله.
ولننتبه إلى هذا أيضاً: أننا إن لم نملأ هذا الفراغ ولم نصدع بالحق بوجه الإلحاد والإرهاب والفوضى بأعلى صوتنا ولم نقل لهم: "هذا الطريق مسدود لا يمكنكم عبوره"، فلا يبقى أيّ معنى للجهاد الذي بذله أجدادُنا لصد الروس واليونان والفرنسيين والإنكليز وأمثالهم من فرق الصليبيين عن حدود البلاد. فقد جعلوا أنفسهم وصدورهم هدفاً لطلقات الأعداء ومدافعهم وحرابهم، ودفعوا مئات الألوف من الشهداء. أي لا يبقى أي معنى لهذه التضحيات المعنوية. وأقول هذا من حيث عاقبتنا نحن، وإلاّ فسيجازيهم الله سبحانه وتعالى بالحسنى ولا يضيع مثقال ذرة من أعمالهم.
نعم، إن فتحنا أبواب الأخلاق السيئة والفكر الهدام وما شـاكلها من الفساد على مصاريعها، فماذا يعنى إذن جهاد أجدادنا وتضحياتهم؟ ألا يعنى سلوكنا هذا هدر دماء أولئك الشهداء الأبرار هباءً؟
ولن يُهدر هباءً دم الثلاثمائة ألف شـهيد ممن ضحوا رجالاً ونساءً بأموالهم وأنفسهم في "جَنَقْ قَلْعَة". فالروس الذين خرّبوا البلاد وأهلكوا العباد في "بالان دوكن"،[2] والأرمن الذين خانوا العهد وطعنوا من الخلف، فذهب بسببهم أكثر من مائتي ألف شهيد سـطروا التوحيد بدمائهم في الثلوج التي تغطي الجبال الشاهقة.. نعم، لن تضيّع دماء أولئك المضحين! وإلاّ ستعاتبنا بشدة "نَهْ نَهْ خاتون"،[3]و"صُوتْجُو إمام"[4] وآلاف من أمثالهم من الأبطال، فكيف ننجي أنفسنا من هذه المسؤولية الجسيمة؟. إذن نحن مضطرون أن نظهر تضحية مماثلة في سبيل دعوة أولئك الذين صدّوا هجمات الأجانب وضحوا بأنفسهم راغبين راضين مرضيين لئلا تداس أرض البلاد بأقدام الأجانب.
ولكن الفرق بين تضحياتهم وجهادهم أمس وما نحن بصدده هو فرق من حيث النوعية. فأجدادنا استعملوا في الجهاد السلاح مقابل السلاح، فكان هذا ما يجب أن يعملوه. أما نحن اليـوم فعلينا أن نجابه الأعداء بالطرق والمناهج التي يستعملونها.. وهو الطريق الأسلم الأوحد للحفاظ على دماء أجدادنا من الضياع والهدر.
فعليك أيها المسلم -من حيث الظروف وطرق النضال والكفاح الحالي- ولأجل إنماء الفكر الإسلامي وإنعاش نشوة العبادة، أن تبنى بجنب التكايا والزوايا مؤسسات تتمكن من أن تؤدي المهمات نفسها التي كانت تؤديها في سابق العهود. فتهرع لإمداد الجيل الناشئ في تلك المؤسسات لملء عالمه الداخلي بروح الإسلام والشعور به. وليُعلم أن الجيل المحروم من المعنويات لا يمكنه أن ينهض بأداء أي عمل إيجابي بنّاء. لأن تربية شخصيات ذوى فعالية ونشاط عظيمين منوطة بهمّتك هذه وبجهودك هذه. فإذا ما سعيت سعياً حثيثاً بمنهج معين وطريقة محددة منسقة يمكن أن يظهر في جيلك أنت: أمثال الإمام الرباني والإمام الغزالي والشاه النقشبند ومحمد الفاتح وياووز سليم من العظماء وأمثال الفارابي وابن سينا ومحي الدين بن عربي ومولانا جلال الدين الرومي من نجوم الفكر وأقطاب الأولياء.
فلا يحول شيء من أن تزدهر في حدائقنا أمثال هذه الأزاهير الفواحة. ويكفي أن يتقن البستاني عمله ويبذل أقصى جهده.
ووجه آخر أيضاً للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو أنـه يجب أداؤه باسم الحقوق المشتركة بين الناس، وهو في الوقت نفسه مسؤولية نابعة من الحياة الاجتماعية. فإن تحقيق الأخلاق الإسلامية والفكر الإسـلامي كي يُستشعر بها ويُعاش بها هو في ضمن هـذا القسم من المسؤولية الاجتماعية. فكما تعد من القواعد التي لا تتبدل بالنسبة للمسلم لمعاملاته اليومية في السوق وغيرها ضمن هذه المسؤولية كذلك الحقوق التي يجب أن تصان بين الأفراد، هي ضمن هذه المسؤولية أيضاً. والآن لنوضح الأمر:
إن للإسلام أخلاقاً خاصة بـه في التجارة والاقتصاد. والمسلم مضطر لإقامة حياته التجارية والاقتصادية ضمن إطار هذه الأخلاق. فلا يمكنه أن يتعامل بالربا ولا أن يحتكر ولا يدخل في المضاربات التجارية المحرمة. فهو مضطر لأن يبقى خارج كل ما هو غير أخلاقي كحماية زمر معينة وإزالة الطبقة الوسطى. وعليه أن يقيم الميزان والتوازن في جميع معاملاته التجارية. فكل ما هو خارج عما يقبله الإسلام لا يعد متاعاً للمسلم، وعليه أيضاً أن يسعى لتكون حياته التجارية مستقرة ومعاشـة. بل مضطر إلى هذا السعي. وهكذا فللأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هذه الجهة أيضاً.
وبهذا يكون المسلم قد ضرب ضربة قاصمة المراباةَ والاحتكار والسوق السوداء، وغيرها من المنكرات التجارية حتى لا يجد ما يحظره الدين المناخ الذي يتنامى فيه في ذلك المجتمع.
نعم إن للإسلام -كأي نظام آخر- قواعده في مناحي الحياة كلها: في التجارة، في العائلة، في العلاقات الاجتماعية…الخ. فمثلاً: في العائلة يشترط الإسلام النكاح، وبه يتكاثر الإنسان. فلا موضع للزنا والفحشاء في المحيط الذي يعيش فيه الإسلام. لأنهما من الأمراض الخطرة والمدمرة لكيان المجتمع بينما الإسلام يصد أي عامل يحاول تدمير حياة المجتمع.
وفي داخل العائلة حُددت العلاقات التي تربط بين أفراد العائلة، بين الأب والأم والأولاد بحدود قواعد الإسلام. والإسلام دقيق جداً في المحافظة على العائلة وعشها. ولهذا فإن أي فكر يحاول هدم هذا العش العائلى يجد الإسلام يصدّه. ومن المعلوم أن هذه العناية شرط أساس للحفاظ على كيان العائلة والحيلولة دون ضياع النسل.
فالمؤمن -كما يُرى هنا- حينما يسعى من جهة لتحقيق أوامر الإسلام في حياته الخاصة وفيمن حوله من الناس، يحاول من جهة أخرى أن يبعد ما يحظره الإسلام ويحرمه من حياته الخاصة ومن حياة المجتمع. وهذه إحدى طرق الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أيضاً.
فالمؤمن إذن -ضمن هذه الطرق المتعددة- في الوقت الذي ينفّذ ما هو الواجب عليه من مهام ليملأ حياته بالفضائل، يحاول أن يملأ مجتمعه الذي يعيش فيه بها كذلك. وعندها يمكن التحدث عن الإنسان الفاضل بمعنى الإنسان الكامل والمجتمع الفاضل الناشئ من هؤلاء الأفاضل والأمة الفاضلة... ومرحلة أخرى، الدنيا الفاضلة التي تتركب وتنسج من هذه المجتمعات والأمم. وهكذا. ينتظر العالم ما يحيكه المؤمن من الدنيا من خمائل مطرزة، وبناء مثل هذه الدنيا منوط بالعمل، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالأفراد في هذه الدنيا التي نرغب في إنشائها ونطمع أن نراها يسعى كلٌ منهم ليفيد الآخرين، وتحاول الأمة أن تجعل الدنيـا جنة نعيم لها وللأمم الأخرى. والمنافسة في الفضائل هي الأسـاس في هذه الدنيـا. والمجتمع والعالم الذي تتسابق فيه الفضائل، يسيطر فيه "نحن" بدلاً من "أنا" فتُقتل فيها الأنانية التي يعبر عنها الشاعر "إذا متّ ظمآن فلا نـزل القطر" و تُدفن هذه الأنانية المحضة إلى غير بعث. وتنشأ وتزهر فيها "إذا مات أحدهم ظمآن فلأكن أنا". هذا المجتمع هو الذي يرى النمو والإنبات. وليسعد كل الناس وسأكون سعيداً بسعادتهم، ولكن لأكن أنا آخر مَن يسعد. هذه الفكرة هي التي تعم الجميع وتربط أفراده الواحد بالآخر. والشعور بالصداقة والمحبة يعم الجميع ويعيش الكل في هذا الجو ويُنسى العداء والبغضاء.
والحقيقة أن كل هذا الكلام المذكور موجود في الفكر الإسلامي الأقدس الذي يشكل بناءنا الروحي. وحينما يفهم الناس هذا النظام ويعمل في أرواحهم إذا بعالم الفضيلة يظهر إلى الوجود بنسبة معايشتهم له.
والشرط الأساس في هذا: لا بد أن تدرك الدنيا كلها هذه النتيجة وتعيها وتشاهدها في الواقع، وهذا سيحدث كذلك بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وتنتظر هذه الوظيفة -في مستوى الفرد والعائلة والمجتمع- حالياً تلك الأيدي المباركة التي ستمتد إليها.
الهوامش
[1] البخاري، العلم 45؛ الجهاد والسير 15؛ مسلم، الإمارة 149-151؛ الترمذي، فضائل الجهاد 16.
[2] جبل قرب مدينة "أرضروم". (المترجم)
[3] رمز البطولة للمرأة التركية حيث دافعت ببسالة نادرة مع الجيش العثماني في حرب الروس المشهورة بحرب 1293هـ. ولدت في مدينة أرضروم وتوفيت في 22/5/1955 بعد أن عمّرت 98 سنة، ودفنت في مقبرة الشهداء في العزيزية. (المترجم)
[4] من السبّاقين في حرب التحرير، إذ هو أول من أطلق النار على واحد من الجنود الفرنسيين الذي تعرّض لحجاب النساء في 13/10/1919. (المترجم)
بقلم: فتح الله كولن