لتحميل الكتاب كاملا يرجي زيارة موقع الاستاذ محمد فتح الله كولن وفقا للرابط التالي :
فهرسة الكتاب
- الأمل
- أنفاس ظمئنا إليها
- أين أنت؟!
- جيلنا ويد الخلاص
- إنسان نتوق إليه
- بُناة المستقبل
- أنت!..
- الشبيبة
- تكريم الإنسان
- من أجل السموّ بالإنسان
- الدموع
- لا زالت دموعنا تتساكب
- لكي نمسح دموعك يا صغيري
- الأمّ
- الرحمة
- التسامح
- طرقنا إلى الغد
- مخاوف الصقيع
- حب الحياة
- رحلة الجنون
- النقد الذاتي
- المحاسبة
- أمة في التوازنات الدولية
- من الماضي إلى المستقبل
- مجتمع الأمن والاطمئنان
- تصورنا التربوي
- المعلّم في تصورنا التربوي
- قطيعة مع العلم والتكنولوجيا
- طابوهات جديدة
- الإثم
- التوبة
- الصبر
- الثَّغر الأخير
- البطَل
- الجنْديّ
- الانتصار
الإثم
الإثم انهيار داخلي... ونـوع من مخالفة الفطرة السليمة ومناقضتها... والذي يقع في الإثم شخص مسكين نكد الحظ اسـتسلم للشيطان بكل قابلياته وبكل ملكاته الروحية، وترك نفسه لعذاب الضمير ولوخزات القلب. فإن استمر في اقتراف الإثم نفسه، فهذا يعني أنه ترك حبل نفسه على غاربها، ولم تعد لديه أي إرادة، ولا أي مقاومة، ولا أي قدرة لتجديد نفسه.
الإثم ليس إلا صفعة على وجه الإرادة، وزقوم أُشرِبه الروح. وما أحط الإنسان الذي يتلذذ بالإثم! وما أكثر تسـيب الإنسان الـذي دمّر بالإثم روحه!..
الإثم عاصفة هوجاء تطفئ جميع الاستعدادات والمشاعر السامية المهداة للإنسان، ودخان سامّ يحيط بحياته القلبية من جميع جوانبها. فمن تعرض لهذه العاصفة جف وذبل، ومن تعرض لهذا الدخان اختنق ومات.
ما أن يدخل الإنسان في دائرة الإثم حتى تنقلب لديه المقاييس والموازين. فكما يكون مصير الطائرة التي لا تحسب حسابا للجاذبية الأرضية وللقوانين الفطرية هو السقوط والارتطام بالأرض، كذلك الأمر بالنسـبة لمن يلج بيئة عفنة منعتها يد الحكمة.
وعندما قام آدم عليه السلام بفتح مثل هذه الثغرة في حيـاتـه الشخصية، لم يستطع تجاوزها إلا بسـيول من الدموع التي لو جمعتها لكانت بحرا. أما الشيطان فلم يستطع الخلاص من بئر الإثم التي وقع فيها رأسا على عقب، فكان الهلاك مصيره.
كم من شاب أهيف كغصن البان،
وكم من أميرة وردية الخدّ،
وكم من سلطان عظيم،
وكم من صاحب تاج كبير...
وكم من أميرة وردية الخدّ،
وكم من سلطان عظيم،
وكم من صاحب تاج كبير...
كم من هؤلاء فتح بخطوة واحـدة أشـرعته لبحار الإثم ولكنهم لم يستطيعوا الرجوع أو العودة من سفرهم هذا أبدا. فالإثم يسري في الإنسان رويدا رويدا... ويداعب هواه كنسيم ويلاعبه، يتربع هناك على عرش قلبه. ثم يتحكم بمشاعر الإنسان تحكما لا يستطيع الخلاص من قبضته إلا صاحب إرادة قوية، وبعناية من السماء. والأسوأ من هذا أن المرء عندما يمخر عباب الإثم يبتعد عن نفسه وينأى عنها إلى درجة أنه لا يشـعر ولا يدرك مدى التغير الذي أصابه، ولا يسمع، ولا يلتفت إلى صراخ روحه، أي أن عالم الحس وعالم القلب عنده أصبح هامدا متبلدا لا ينبض بأي حركة.
الآثام متكومة على الطريق الذي يسلكه الإنسان، وهي تترقبه وتترصده مثل حية رقطاء. ومـع أنـه من الممكن التخلص من إحداها، ولكن من الصعب عليه التخلص منها جميعا وعدم التورط فيها وهو يواصل سيره في طريقه، فهذا يحتاج إلى إرادة من فولاذ. وإلا كان هذا شبيها بسيارة قد تعطل فيها مقسم السرعات، وتريد منها أن تجتاز بك الطرق الملتوية الوعرة للجبال الشم. فمصير مثل هذه السيارة أنها تستقر في حفرة من الحفر أو في قاع واد من الوديان.
الآثام أنواع مختلفة، في مقدمتها -كما أخبرنا بها الصادق المصدوق- هذه السلسلة من الآثام التي تقشعر منها الأبدان: أن تشرك بالله، أو أن تقتل نفسا بغير حق، أو أن تعق والديك، أو أن تدلي بشهادة زور، أو أن تفر من الزحف، أو أن ترمي المحصنات من النساء... الخ.
تعد هذه الآثام انحرافات كبيرة في عالم الفكر وفي العالم الداخلي للإنسان وفي العائلة والمجتمع. فإن لم تتخذ التدابير للحيلولة دونها في أوانها المناسب انهارت العائلة والمجتمع.
أجل! إن على الأسرة والمجتمع والوطن أن يحذر جدا من أصحاب الأرواح الفجة التي لم تتهذب بالتوحيد. فأصحاب هذه الأرواح المنكودة التي اسودّت بالدخان، وصدأت حتى فقدت شفافيتها، وحل السواد محل البياض الناصع في العالم الداخلي لهم لا يتورعون -إن لم يكن اليـوم فغداً- من حرق الوطن وكل شيء. ولا يمكن أبدا التهوين من مقدار الخيانات التي اقترفها هؤلاء الذين ختم الله على قلوبهم وعلى أبصارهم ووضع عليها غشاوة فيما مضى من الزمن وفي هذا الزمن.
ولكن يجب التنويه بأننا -في المطاف الأخير- نحن المسئولون عن الذيـن باعوا الوطن لهذا أو لذاك، وحولوا الغابات والبساتين إلى صحارى جرداء، ونحن المسؤولون عن هؤلاء الجهال عديمي الإيمان والضمير من الدمى بأيدي الآخرين الذين اقترفوا كل هذه الإساءات.
أجل! نحن الذيـن أهملنا ونحن الذين أفسدنا... نحن الذين جعلنا عديمي الإيمان هؤلاء لا يبالون بأي شيء... ونحن الذين سندفع الحساب... سندفع الحساب اليوم ونحن في القبضة الحديدية للحوادث والبلايا... وسندفع غدا أمام التاريخ... ثم سندفعه يوم المحكمة الكبرى... يوم لا يعزب عن ربك مثقال حبة من خردل.
إن إبعاد أمة كاملة عن ذاتها وعن هويتها، وزرع أدمغتها بأفكار غريبة عنها، وهدم محرابها، وتحويل منبرها، ليست من الآثـام التي يمكن أن يغفرها التاريخ ولا المحكمة الإلهية يوم الحساب.
إنه إثم كبير أن تُحرَم الأجيـال من العقيدة، ومن الفكر ومن موازين ومقاييس الحق ومن الاستقامة، وتحويلها إلى تجمعات فوضوية وجعلها وسيلة هجوم واعتداء. لأن الهجوم والاعتداء على الأمة وعلى أجيالها وعلى دينها وعلى ثرواتها إثم كبير. ثم إن القيام بمعاقبة هذه الأرواح المتمردة لا يقلّ عن السابق إثمها.
إن من الإثم إهمال الأجيال... إثم أنْ تُحوَّل قلوبها وأرواحها إلى قلوب وأرواح خالية من الإيمان ومن الطمأنينة... إثم جعلها عدوة لماضيها وخصما له، وعدوة لتاريخها ولجذورها... إثم أن تحول –بأشـربة أجنبية- عن ذاتها وعن هويتها... إثم أن تُحرم من نقاط استنادها المعنوية والمقدسة... أجل إنه إثم... وأيّ إثم!
ولكن هناك إثم أكبر من كل ما سبق... وهو عدم عدّ ما فعله وما يفعله هؤلاء المجرمون العتاة الذين قلبوا الساحة إلى ساحة حريق ودمار وفيضان... عدم عدّ ما يقترفونه إثما. أجل!.. إن كان هناك إثم لا يغفره الله تعالى ولا ينساه التاريخ فهو هذا الإثم... أيْ إن عدم عدّ الإثم إثما يشكل إثما بذاته، كما أن عدم التوقي والخشية منه أو الحذر من الاقتراب منه يعتبر رأس الآثام.
وحتى حدس ومعرفة هذا الإثم المسؤول عن كل هذه الآثام العديدة التي نخرت مجتمعنا من الداخل خفية وبخبث، ثم تسليمه إلى القبضة الحديدية للمحاسبة وللمساءلة للحكم عليه، فمن الصعب توقع تجديد الأمة نفسها بنفسها، بل حتى بقاؤها حية. وصدق الشاعر محمد عاكف حين قال:
لا يعيش المجتمع من دون مشاعر،
دُلّني على أمة تعيش ميتة المشاعر...
دُلّني على أمة تعيش ميتة المشاعر...
ثم إن القيام بالمبالغة في معاقبة هؤلاء -بعد كل سوء التوجيه هذا- لا يقل إثما عن السابق.
التوبة
التوبة هي تجديد المرء لنفسه، ونوع من التعمير والإصلاح الداخلي، أي إعادة للتوازن القلبي الذي اختل نتيجة الأفكار والتصرفات المنحرفة، أو بالأصح هي فرار من الحق تعالى إلى الحق تعالى، أو هي انتقال من غضبه إلى لطفه، ولجوء من حسابه ومؤاخذته إلى رحمته وعنايته.
ويمكن تعريف التوبة أيضا بأنها محاسبة للذات تحت وطأة شعور الإثم. أي قيام الذات والإرادة بالوقوف كالجبل الأشم تجاه النفس التي تريد أن تحيا حياة غير مسؤولة، وتجاه الإثم وعدم إفساح المجال له.
فـإن كان الإثم تدحرج غير متوازن في حفرة، فالتـوبـة -حسب مقتضياتها- قفزة آنية للخروج منها. وبتعبير آخر إن كان الإثم جرحـا في الروح ناتجا عن سهو مؤقت للضمير عن المراقبة، فالتوبة هي وقوع القلب في عذاب دائم، وبدء بمراقبة جدية وبسيطرة حازمة على النفس، مما تكسب المشاعر الإنسانية قوة وعزما جديدين.
ولما كان الإثم ناتجا عن تحكم الشيطان وبتأثير من النفس، فالتوبة هي دفاع المشاعر ضد الشيطان، وجهدها في علاج عدم التوازن الذي حدث في الروح.
تقوم التوبة -بعكس الإثم الذي يؤدي إلى تآكل الروح وتعريتها- بتزيين جوانب القلب وفرش الزهـور فيها بـ"الكلمة الطيبة" -التي هي أجمل الكلمات والأفكار وأعذبها- والوقوف أمام جميع التخريبات والتآكلات والحيلولة دونها. فكم تكون محاولة التوبة التي تحرك القلوب مبجلة قبل أن يأتي اليوم الذي تشخص فيه الأبصار وتبلغ فيه القلوب الحناجر. فكم نتمنى الوصول إلى المستوى الذي نستطيع فيه بدموعنا المسكوبة تعمير وسد كل ثغرة يفتحها الإثم في قلوبنا.
أجل!.. التوبة عنوان للرجوع الرجولي، وبخلافه تكون كل كلمة باطلة، وكل تصرف خداعا. لأنه إن لم يتم تلافي ما فات، ولم تسد ثغرات الإثم التي أحدثت ندوباً في بعض مساحات الزمن، فادعاء الندم على الذنوب التي ارتُكبت دون أي دمع في العين ودون أي رجفة في المشاعر، ودون أي ألم في الروح ادعاء فارغ وبعيد عن القبول.
الآثام أنواع مختلفة وتختلف التوبة باختلاف الآثام. الإخلال بوحدة الأمة ذنب كبير. لذا يعد مرتكب هذا الإثم أكبر مجرم لدى الخالق ولدى الخلق. لذا ما كانت التوبة من مثل هذا الإثم تُقبل إلا بعد إرجاع الحياة الاجتماعية التي أصبح عاليها سافلها إلى سابق عهدها وإلى سابق صحتها ووحدتها. وإلا فإن ادعاء هؤلاء -في الوقت الذي يعاني المجتمع من هذا المأزق المخيف ومن هذا الخطر الداهم- بأنهم نادمون ليس سوى انخداع وخداع. أجل إن التوبة من مثل هذا الإثم لا يكون إلا بإشعار المجتمع كله، وبكل وضوح وبكل وسيلة، الرجوع عن هذه الأفكار المنحرفة التي بذرت في كل مفاصل المجتمع ومزقته وخربته. لأن توقع الحصول على العفو وعلى المغفرة من هذا الإثم بتوبة صامتة وندم سري وغير معلن... مثل هذا التوقع تعلق كاذب بالأمل، وانخداع. لأن النـزاعات الداخلية ستستمر وسـيزداد التدخل والضغط الخارجي الذي يستفيد من التشتت ومن الضعف الداخلي ويقوى. لأن نظام أي مجتمع وحياته ورفاهه -أي كون التوفيق الإلهي معهم- مرتبط بالتفاهم والتساند الموجود بين أفراد ذلك المجتمع وتجمعاته وأحزابه، أو في الأقل عيشهم في سلام دون خلافات وخصومات. وعلى العكس من ذلك إن كانت هناك أمة قد تلبد أفق مجتمعها بغيوم سوداء من الخلاف والشقاق والنـزاع، فعليها القيام بتوبة جماعية. ومثل هذه التوبة الجماعية متعلقة بالتحول في موضوع العفو إلى حواري من حواريي روح الله عيسى عليه السلام في حياة المحبة والمغفرة والعفو والتسامح. ويتحقق هذا بمساندة كل فرد ومعاونة كل فكر بالذي يحمله من صفة الحق وأسلوبه، ومدّ يد العون له، وتشجيع كل حملة خير وتقدير كل تضحية. ويتهيأ لي عدم وجود علاج أنجع من هذا لتضميد جراحاتنا النازفة منذ عصر كامل، فليس هناك علاج مجرب وموضوعي أفضل من هذا العلاج. ويكاد يكون من المستحيل العثور اليوم على بديل آخر له.
ولكن كم من المؤلم أننا نبحث عن طرق سهلة -كمراسيم توبة في ليلة الجمعة- للخروج من تحت وطأة وبال الآثام التي أثقلت كواهلنا. بينما إن كان هذا الطريق المختصر من التوبة والندم كافيا للآثام الفردية، فإن الأمر إن كان متعلقا بجرائم ذات صلة بالمجتمع فهذا لا يكفي بل يطلب انتفاضة جماعية وتجديدا للنفس.
آه من مثل هذا الهروب من عزائم الأمور، وآه من هذا التوجه لكل أمر سهل ورخيص!
إن على كل مؤسسة تمثل المجتمع أن تتوب، وتكون توبتها بفهم انواع الأخطاء التي قرضتها وأنهكتها وأفلستها، والقيام من ثم بتلافيها.
وتكون توبة الكادر الإداري بفهم وفحص جرائمه وأخطائه وذنوبه، ثم اتخاذ موقف آخر مضاد تجاهه ومعاكس، وتجديد نفسه وإحيائها.وإلا فإن عقد خمسين ألفا من مراسيم الندامة وشعائرها لا تفيد شروى نقير، ولا تقطع بها خطوة واحدة إلى الأمام. فتبا وألف تبٍّ لمن يرى الداء دواء، وتبا ألف تبٍّ لمن خُدع بهذا مرارا وتكرارا!
تتسامى أفراد المؤسسات العدلية والقضائية بقراراتها الصائبة والصحيحة التي ابتغت بها وجه الحق والعدل، وتكون مرشحة لأسمى المراتب الأخروية. وكل ساعة عدل منها تعد أعواما من عمل الخير في حقها لدى الحق تعالى. ولا تقل عن درجتها هذه عندما تندم وترجع إلى نفسها بعد أي قرار خاطئ. ولكنها عندما لا تبالي بالحق، وعندما ترى أن الحق للقوة وللقوي، وتضحي بالحق على مذبح القوة لا تستحق حينذاك أي عفو أو توبة.
والشيء نفسه وارد بالنسبة لمؤسسات التربية والتعليم. فما دامت هذه المؤسسات محافظة على مشاعر الأمة وأفكارها ومقدساتها، ومدافعة عنها وصائنة لها، استحقت كل تبجيل وتقدير. فإن روجت للأفكار المنحرفة والمشوهة سقطت إلى دركٍ أسفل من درك اللصوص والمجرمين. وما لم تعد إلى رشدها وتتخذ موقفا حازما تجاه الأفكار الأجنبية والمخربة، فلا تقبل منها توبة، ولا مغفرة لها.
أما جميع المؤسسات السياسية، والأفراد والجماعات غير السياسية، وكذلك المفكرون والكتّاب والمرشدون فإن انحصر اهتمامهم ومحبتهم لأنفسهم ولجماعتهم فقط، وقاموا بإظهار الخصومة والعداوة لأهل الحق من خارج حلقاتهم، أو خارج نطاقهم، فهم في إثم كبير، ولا سبيل أمام كل فرد منهم إلا طرق باب التوبة، والتوبة هنا فرض عليهم أيما فرض.
أجل!.. فعلى جميع هذه المؤسـسات والأفراد أن يراقبوا أنفسهم مرة أخرى عن كثب، فيروا نصيبهم من الإهمال والأخطاء والآثام ضمن سفينة الأمة الجانحة التي يركبونها، فيحاولوا بكل وسعهم تلافيها. فهذا واجبهم الذي لا يمكنهم إهماله. وإلا كان ديـدن هؤلاء حتى اليوم البحث عن الأخطاء خارجهم، وخارج جماعتهم. فإن استمروا في البحث عن معاذير لاتهام الآخريـن وتشويه سمعتهم، فليس بعيدا أن نتعرض إلى مصائب ومشاكل لا نستطيع حملها أو الصمود أمامها.
أجل!.. لقد كان أوخم آثامنا أننا رأينا الآخرين مذنبين، ورأينا أنفسنا أبرياء على الدوام. ولكوننا لم نتخلص من هذه العادة ومن هذه العقلية، فقد فسـدت الأجواء الاجتماعية وقست، حيث تسـارعت وتائر الإنقسام والتشرذم. لذا كان على جميع من لهم علاقة بمصير هذه الأمة وقدرها من الناحية المادية أو المعنوية، وعلى جميع أصحاب الأرواح المخلصة الذين نذروا أنفسهم لهذه الأمة أن يعترفوا بذنوبهم ويتوبوا.
وعلى الذين يسعون لاهثين وراء المناصب... الذين على أعينهم غشاوة من حبهم المحصور على حزبهم، وفي آذانهم صمم... الذين تركوا بأفكارهم الشاذة الأجيال الصاعدة دون قلب ولا روح... الذيـن يرون بطغيانهم وجبروتهم أن الحق للقوة، والذين أعلنوا الحرب على كل ما يخالف أفكارهم حتى وإن كان من مصدر إلهي... الذيـن لا يرون ولا يدافعون إلا عن مصالحهم ومنافعهم... الذيـن لا يرون بأسا من أي تزوير أو كذب أو خداع وتدليس... الذيـن يرون كل وسيلة مشروعة من أجل الوصول إلى غاياتهم وأهدافهم... الذيـن يتقلبون ويتلونون مع كل عهد... على كل هؤلاء أن يثوبوا إلى رشدهم وأن يعلنوا وللمرة الأخيرة عن توبتهم باسم الإنسانية وأن يجددوا قسمهم ويمينهم عليها.
مأ أسعد من أدرك ذنبه فأسرع بالتوبة!.. وما أسـعد من كان صلبا لا يتهاون مع نفسه، وليِّنا ومسامحا مع الآخرين من أهل الحق!
الصبر
الصبر أساس مهم من أسس السمو إلى الفضيلة، وهو انتصار للإرادة. وعند غيابه لا يمكن توقع تهذيب الروح، ولا العلو للوصول إلى أسرار الذات. بالصبر يتخلص المرء من الارتباط بالتراب وباللحم وبالعظم، ويكون من السعداء المرشحين للوصول إلى عوالم عليا. فإن كان الصبر ممرا ضيقا، وقمة عالية صعبة الاجتياز إلى سلطنة عوالم ما وراء الأفق، فإن جندي الحق الذي عشق تلك العوالم وتوله بها حبا ووجدا هو البطل الذي يتحدى هذه الممرات الصعبة وتلك القمم العالية، ويراها سهولا منبسطة سهلة الاجتياز.
الصبر هو شعور المرء بالتناغم الموجود في ثنايا الفطرة وفهمه وتقليده. أجل!.. إنه جهد لفهم لغة الأشياء والحوادث، ودخول في حوار معها. وما أجلّ الذين يبدون صبرا وثباتا في سبيل إدراك هذه اللغة ومعرفتها، ثم يقومون بتأسيس جسر بين تصرفاتهم وسلوكهم وبين الحوادث المتدفقة عبر سيل الزمن للتوحد مع الطبيعة! وما أسمى هذه الموسيقى الإلهية التي يترنم بها الكون! وما أسمى الإحساس بهذا التناغم ورؤيته، وما أسطع هذه الرؤية!
الصبر هو فهم لفعل الزمن وصروفه وتأثيره في الأشياء، وإدراك أن الزمن يأخذ الحوادث ويلوكها بين أسنانه الحادة ويفتتها ويطحنها، ويقلبها من حال إلى حال، ومن شكل إلى شكل. والذين يعرفون كيف يكونون فولاذا في أحيان وجليدا في أحيان أخرى حيال هذه الإذابة الصامتة للزمن، يستطيعون الوصول إلى بعد آخر في خط جريان الزمن فيتخلصون من العدم. ومن لم يستطع إدراك هذا عصرته يد الزمن.
أجل!.. إن الفطرة تقوم بكسر أرجل الذين لا يعرفونها ولا ينظمون سيرهم حسب قواعدها، وتسحق أرواحهم. بينما تكون لينة كالشمع في أيدي الذين يعرفونها، ويتناغمون مع روحها في سـلوكهم وحركاتهم وسكناتهم، ويكسبونها لحنا داوديا.
آه من هؤلاء الأطفال الأشقياء الذين لا يدركون هذا السر... المتعجلين أبدا، الذين لا يدنون من الصبر ولا يتحملونه.
أجل!.. كم من شخص لا يعرف نفسه ولا يفهم الفطرة من الذين قضوا سنوات عديدة وهم يجرون لاهثين، ولكنهم لم يستطيعوا التقدم شبرا واحدا. وكم من أشخاص على الرغم من أنهم يبدون ساكنين هادئين كنهر عميق هادئ، إلا أنهم ساروا خطوة خطوة دون توقف، وتغلبوا على جميع موانع وأستار الظلام، واجتازوا جميع العقبات بطريقة غير متوقعة... بهدوء ودون ضجة أو جلبة... دون مظاهر أو فخفخة... مثل المرجان الذي صادف كل أنواع الآلام في قاع البحر، وغرق في الدم حتى وصل إلى أفق الزبرجد.
تخترق البذرة التربة والصخر بصمت وبثبات حتى تصل نبتتها إلى سطح الأرض، ويعرض البرعم نفسه للشمس مرات ومرات، ثم يواجه هذا البرعم وطأة ظلام الليل مرات ومرات حتى يصل إلى ماهيته ويتفتح. وما بالك بالوليد؟ إنه يبدأ بنطفة صغيرة في رحم الأم تنتقل من ظلام إلى ظلام. إن مسيرتها طويلة وتستدعي التأني والتمهل والصبر. أجل!.. إنها تنتقل وتتقلب من شكل إلى شكل، ومن قالب إلى قالب. وبعد تسعة أشهر يخرج الطفل إلى الدنيا بهيئته التامة الخلق.
ثم لننظر إلى خلق هذا الكون العظيم. لقد خلقه الخالق القادر بكلمة "كن"، ثم تقلب المكان والأشياء في يد قدرته مليارات السنوات من طور إلى طور، ومن شكل إلى شكل حتى وصل إلى وضعه الحالي. فما أكثر معاني هذا، وما أكثر عبر هذا الدرس!
إن كل موجود في هذا العالم... كل موجود... ليس إلا انتظارا متسما بالصبر والمقاومة للوصول إلى هدفه خطوة خطوة... دون أي تعجل... ودون أي تغيير في الاتجاه... اتباعا وامتثالا لقوانين الفطرة.
آه من هذا الإنسان المتعجل أبداً!.. أنت الوحيد الذي يبدي نفاد صبر... أنت الوحيد الذي لا يراعي الترتيب الموجود بين الأشياء!.. أنت الوحيد الذي لا يصبر على المسافات عند الصعود، فتحاول صعود عدة درجات في آن واحد وبقفزة واحدة!.. أنت يا من تنتظر النتائج دون أن تراعي الأسباب!.. أنت يا من تضع خيالات وتبني منها قصورا من زجاج وتغرق فيها!.. ثم ينتهي أمرك وتضيع بين ركام الأماني الكاذبة!.. أنت يا من تتحدث دون أن تفكر، ثم لا تأخذ عبرة من الندم الذي يعقبه، ولا تعقل!.. آه لو علمت!.. لو علمت كم تكون بعيدا عن القلب وعن الحب بحالك هذا، وكم تكون قريبا من الشؤم!.. ليتك تأخذ درسا مما يحيط بك من الحوادث التي كل حادثة منها خطيب بليغ، وكل واحدة منها لسان، لتتعلم منها كيف تراعي حق الترتيب والتسلسل الموجود بين الأشياء، وكيف تراعي الأسباب والنتائج!.. وليتك عرفت كيف تلجأ إلى الإيمان والعزم والإرادة وتعيش بها وليس إلى الخيال والتمني!
أنت موجـود بقدر صبرك، ومنـزلتك عنـد الحق تعالى هي بقدر صبرك... بقدر الصبر الذي تمارسه في أثناء حياتك باسـتمرار ودون أي انقطاع... الصبر الذي يقول كتابك الكريم عنه إنه الصبر على الاستمرار في ممارسـة أجمل الصفات وأفضل العادات دون هوادة ودون أي توقف... وبقدر ثباتك وقدرة تحملك تجاه القبح وتجاه مـا تكره... وأخيرا بمقدار صبرك تجاه النوازل التي تصيبك دون سابق إنذار، أي بقدر ارتباطك بالحقيقة التي يرسمها الشاعر:
إن جاء الجفاء منك...
أو جاء الوفاء...
حبيب إلى النفس...
اللطف منك أو البلاء..
أو جاء الوفاء...
حبيب إلى النفس...
اللطف منك أو البلاء..
التوجه على الدوام نحو كل ما يعلي المرء، والحذر من كل ما يسفل بالمرء ومقاومته، وأخيرا تحمل كل البلايا والمصائب -التي تنـزل في وقت غير متوقع وبشكل غير متوقع وتهزك- دون أي يأس أو إحباط... هذا هو الصبر الذي هو أمرّ من العلقم، ولكنه في نهاية المطاف شراب زلال.
الصبر هو الثبات في الموقع، وعدم تركه مهما بلغت الخسائر... هو الثبات في الموقع حتى ولو كنت تذوب مثل شمعة مشتعلة.
أين أنت أيها العزم؟! أين أنت أيتها الإرادة؟! أين أنت أيتها الشهامة؟! أين أنت أيتها البسالة؟! لقد دارت رؤوسنا وداخت من كثرة تغيير الطرق وتبديل الاتجاه... لقد انتهى أمرنا من كثرة تبديل المعشوقين والأخلاء... وأصبحنا دون قبلة من كثرة تبديل المحاريب!
يقول أحد عشاق الحق والحقيقة: "لقد أرشدتني قطة"... قطة كانت تنتظر صيدها أمام جحر طوال الليل حتى الصباح دون أن تطرف لها عين... فما بالك أنت أيها الإنسان!.. قل لي كم انتظرت في محرابك الأبدي دون تحويل نظرك وبصرك، ودون تغيير طورك؟ أجل!.. كم مرة استطعت لم شملك دون غضب أو مرارة بعد تشتت ما نظمته، وتفرق ما جمعته، وداومت "من جديد" على طريقك مرة بعد أخرى؟ وكم من مرة رجعت بعد أن طردت من ديارك، ونفيت من وطنك، واغتربت في أرض الله فعدت ووضعت جبينك على عتبة حبيبك؟ ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُـولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّّ نَصْرَ اللهِ قَرِيب﴾(البقرة: 214). إنه قريب من الذين يستمرون على الخط نفسه في إظهار العبودية له، ويتحدّون الآثام ويناضلون ضدها، ولا يفقدون أملهم مهما اكفهرت بهم الأجواء، وثارت حولهم الأنواء. أجل!.. إنه قريب ممن يصفه الشاعر:
من دخل طريق العشق هذا...
لا يهاب الموت...
لقد سلكنا طريق العشق،
فلا يهمنا شيء سواه...
لا يهاب الموت...
لقد سلكنا طريق العشق،
فلا يهمنا شيء سواه...
المصدر: مجلة "سيزنتي" التركية، سبتمبر 1981؛ الترجمة عن التركية: اوخان محمد علي.
من كتاب جيل الحداثة
أمام صوتي -ومنذ سنوات- تتزاحم صراخاتُ الصمت.. فأكاد أصْرخ بلعن الظلم، والبصق على وجه الظالم، وبإفحام المفتري، وقطع صوت المعتدي، وبزجر الكذّاب المفتري، والقوْل لهم: "أما آن لكم أن تكفّوا؟!"... ولكن لكون هذا ضد طبيعتي، فلا أقول بل لا أستطيع لفظ أيّ شيء لأحد.. لأنني أدرك أن الله تعالى يرى ويعلم كل ما يقع، فأربط الأمر بعدالة القدر الإلهي المطلقة، وأكظم غيظي، وأُودِع قلبي حدتي النابض بالحب على الدوام، وانسجامًا مع فكري وأسلوبي أقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله" تجاه من يخطط الأمور ويسرد ما يعنّ له من أقوال يختلط فيها الصدق مع الكذب، وأتَمْتم: "رضينا، حتى بهذا!" مكتفيًا بهذا.. صحيح أن مثل هذا التصرف سيشجّع الظالمين، ويزيد من جرْأة المفترين، ويقود المعتدين إلى مزيد من الاعتداء... ولكني أرجع إلى نفسي فأقول: "مهما كان، فهؤلاء أيضًا من بني البشر، ربما يخطر ببالهم يومًا ما أنهم ينتسبون إلى الإنسانية، فيرجعون إلى أنفسهم ويكفّون عن هذه الخزعبلات، ويعودون إلى الانصاف.. قد يكون هذا نوعًا من حسن الظن، أو أملاً بعيد المنال، ولكن لا أملك سوى انتظار ذلك اليوم المأمول... أنتظر محاولاً تخفيف الآلام التي تعصف بمشاعري، وجاهدًا لتخفيف غلوائها، بل قد أدلف إلى صمت عميق أراقب نفسي، وأحاول الخروج من عالَم مشاعري..
كتب فتح الله كولن فى كتباه "جيل الحداثة" عن الكعبة المشرفة التى هى قبلة القلوب قائلا :
الكعبة هي المحراب المشترك لنبضات قلوب المؤمنين، والتي تم تمجيدها وبيان فضلها عند وصفها بأنها "أول بيت وضع للناس". وضع خطط أسسها وقواعدها فيما وراء هذا العالم، وبُنيت بيد أطهر نبي في وقت لم تكن مواد البناء من لبنات ومواد رابطة قد عرفت أو استعملت في الأرض.
تقرر موقعها وموضعها قبل نـزول آدم عليه السلام إلى الأرض وتشريفه لها بأعوام وأعوام، إلى درجة أن الملائكة أخبرت يوما آدم عليه السلام بأنها طافت حول الكعبة مرارا قبل خلقه. وبعد الطوفان وحسب الآية الكريمة: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(البقرة:127) قام أبو الأنبياء إبراهيم وابنه الكريم إسماعيل عليهما السلام برفع بنيان هذا البيت الذي كان قد تهدم وسوّي بالأرض من جديد.
إن الكعبة التي هي عبارة عن مقطع مجسم لعمود نوراني يمتد من مركز الأرض إلى سدرة المنتهى والتي لا يفتر الإنس والجن من الطواف حولها في كل وقت وحين تشتاق إلى حريمها مليارات من الأرواح الطاهرة، المرئية منها وغير المرئية، تود وصالها. أيْ أنها بناء لا مثيل ولا نظير له. فإن قلنا بأن قيمتها تعادل السموات لم نقل شططاً. فاسمها في الأرض وفي السـماء هو "بيت الله".
في كل عـام يهرع المؤمنون إلى جوهـا الروحاني الدافق والدافئ من أرجاء الارض بالطائرات أو السـيارات أو البواخر، ومنذ بداية رحلتهم يضعون جانبا جميع مشاغلهم اليومية وجميع مشاكلهم وأسـباب قلقهم ويتخلصون منها. وبعد أن يلتحفوا لباس الحج الأبيض الطاهر يصلون إلى درجة ونوع قريب من الملائكية يغبطون عليها.
في هذه الرحلة المباركة يحس معظمهم بأنهم يتجولون في دهشة وذهول في سواحل عالم آخر ودنيا أخرى. تراهم مرة في وقفة وقورة كوقفة شجرة دلب ضخمة، أو وقفة مهيبة كهيبة غابة صامتة، أو وقفة تذكرك بعظمة البحر الزاخر... ولكنك لن تعدم ملاحظة صفة عامة فيها، ألا وهي صفة الإخلاص والصدق.
الطرق إلى الكعبة طويلة، والمسافات شاسعة ومرهقة. فكما أن طريق التصوف والسير فيه، ومجاهدة النفس وتطهيرها، وكذلك سفوح وتلال ما يحيط بالجنة، والوديان القريبة من جهنم حافلة بالمشاق والصعاب، كذلك فلهذه الرحلة المباركة متاعبها. ولكنها شرط ضروري لزيادة التهيؤ الروحي ولتكملة الاستعداد الداخلي. فكل إنسان يهيئ نفسه في خلال هذه الرحلة ويمتلئ حسب استعداده وقابليته. فلا يصل إلى هناك إلا وقد استعد وتهيأ بزاد كبير.
كانت هذه الرحلة المباركة تتم في السابق على ظهور الخيول والإبل. ويصادف كل حاج في طريقه عشرات الأضرحة والمقابر، ويزور الأماكن التي عاش فيها الأنبياء العظام ويعيش ويتحاور مع خيالاتهم، ويشـترك في مجالس الأولياء والأصفياء، فيقتبس منهم نوراً لقلبه، أي تكون رحلته هذه رحلة عامرة بالمعاني، ويتسلح روحه ويتطهر وكأنه اغتسل في محراب الجمال والشعر والرومانسية، فيكون مستعداً لجميع الإلهامات والعطايا الواردة من عالم المعاني، ومستعداً بعد ذلك لطرق باب الحق تعالى.
وبعد أن تتفاعل ما أحس به وحدسه ورآه وما شاهده طوال رحلته في أعماق قلبه وروحه، وتنقلب إلى قابلية فهم وحدس يصل إلى الكعبة -التي تنتظر زوارها بشوق وتنظر اليهم وقد تطاول رأسها إلى ما وراء السماوات- ويضع نفسه في شوق شديد في أحضانها.
أجل!.. إن كل قلب يشاهد المنظر الوقور للكعبة وظلّ جبهتها النورانية المنعكسة على المرمر، والمعاني التي تمثلها والتي تسمو وتتطاول نحو السموات، وجوها الذي ينبثق نورا، لا بد وأن يلمس بعض المعاني الخاصة الموجودة وراء منظر الكعبة، ويحس بلذة الهدف الذي من أجله قام بهذه الرحلة، وذلك في جو من نشوة العبادة، فيصل إلى سعادة بارتشاف لذة لا توصف.
إن الكعبة ملائمة لموضعها إلى درجة أن كل من ينظر اليها بدقة يكتشف وجود رابطة قوية بين موضعها وموقعها وبين روحها ومعناها. فكأنها لم تُبْنَ بمواد بناء من الخارج بل انبثقت من جوف الأرض، أو كأن الملائكة بنتها في السـماء ثم أنـزلتها إلى الأرض. وهي تبدو وكأنها تقود حلقة ذكر بين الجبـال والتـلال وأكوام الحجارة الموجودة بالقرب منها والتي أحرقتها الشمس، وكأن الوجود حولها يئن بأنينها وترفع أيدي الضراعة نحو السماء ثم تصمت وتستمع إليها في خشوع.
الكعبة حريم مفتوح لأسرار الصديق، وما حواليها مضيف مفتوح للغير. والصفا والمروة بمثابة قمرية لمشـاهدة سماء الحقيقة وتأملها. وعلى بعد خطوات هناك المقام الإبراهيمي كسلّم نوراني يقود إلى ما وراء الأفق. ثم بئر زمزم وكأنها ساقي الشراب في مجلس العشق الإلهي. وعندما يقوم كل هؤلاء معا بتحية المسافر العاشق، يحس ذلك المسافر بأنه انتقل إلى عالم آخر... إلى عالم أخروي، فيبدأ بالتطلع إلى "عالم الملكوت" من خلال النوافذ التي فتحت في قلبه، وتأخذ أشرعة خياله بالإبحار إلى آفاق رحبة وبعيدة، حتى يخيل إليه أنه لو خطا خطوة أخرى لوجد نفسه في ذلك العالم الخيالي الأزرق الموجود خلف الآفاق البعيدة وراء هذا العالم.
الكعبة بناء أرضى بنيت بمواد بنائية موجودة حواليها، ولكنها تبـدو كزهرة نبتت في حضن العماء ) وامتدت جذورهـا منها واحتضنت في روحها أسـرار كل الوجود، وكأن هناك علاقة -حتى وإن كانت غير مباشرة- بينها وبين الأرض والسماء. إنها بناء تاريخي عتيق وقديم بل هي أقدم بناء وأكثرها عراقة ضمن جميع العهود والأدوار وأكثرها أصالة. إنها درة تاريخية تضاعفت قيمتها حية وجديدة ونابضة في القلوب. وكما كان آدم عليه السلام أهم مصدر من ناحية خلق وطباع جميع الأجيال التي جاءت من صلبه، كذلك الكعبة، فهي بيت في الأرض يحمل أسرار وغموض روح البناء ومعناه.
في حريمها تشم الأرواح المنفتحة على الحقائق في كل وقت الروائح الفردوسية المنشية التي تهب من جميع الجهات. والذين يهرعون إليها من جميع أصقاع العالم، ما أن يروها حتى يغيبوا عن أنفسهم ويبدأوا بالطواف حول هذا المحراب العام طواف الفراشة حول النور باحثين عن طرق الوصول إلى المصدر الحقيقي للأنوار. ومع أن الطواف الظاهري لأهل القلوب هو حول الكعبة، إلا أنه يجري في الحقيقة داخل حلزون نوراني مستند إلى القلب يغيب في المكان ويتلاشى.
الأرواح العاشقة التي تصل إلى أنس الكعبة وجوها العبق، وتحقق الوصال معها، تصل إلى بعد أعمق في فكرها العميق أصلا، وتحس بسحر الكعبة وتشعر به بشكل أقوى وبمذاق آخر.
الكعبة في نظر أمثال هؤلاء مكان عند الحضرة الإلهية. ومعناها وروحها وجوهرها في نظر الإنسان هو كأستاذ ناصح للإنسان مرشد له يهمس في قلبه شيئا ما على الدوام.
لكل وظيفة ومهمة حول الكعبة سحر خاص. ولا يمكن للقلوب المؤمنة ألا تبقى تحت تأثير هذا السحر. فالأرواح الطائفة حولها في كل لحظة، والتي تزداد في كل حين حتى تغدو كسيل هادر يملأ كل ما حواليها تنسى أنفسها في دوامة هذا السيل وفي دوامة مشاعر الحب والوجد والتوله، وتجد أنفسها في عالم روحاني لا يمكن وصفه. وهناك في ذلك العالم الروحاني يحس كل واحد أن كل دعاء وتضرع وتوسل تعبير عن أشواقه ولهفته، ويجد أن أخفى مشاعر قلبه تجد طريقها إلى لسانه بأخفى الكلمات وأكثرها سرا... عند ذلك سيتذكر طوال حياته أحاسيسه هذه التي اتحدت في ظل تلك الأصوات والأضواء والموسيقى والتي أوصلته إلى لذائـذ لا توصف ويصعب بلوغها، ويحتفظ بها كأعز وأثمن وأدوم الذكريات في حنايا فؤاده
كيف احصل علي هذا الكتاب
ردحذفsalam alaykom
ردحذفje veux ce livre en pdf
voici ma boite
mourchid.gmail.com
jazakom allah khayran
plutôt mourchid.gpro@gmail.com
ردحذفjazakom lah