الخميس، 21 يونيو 2012

مقتطفات من كتاب عودة الفرسان آخر مدونات د فريد الأنصاري رحمه الله ،رواية شاعرية النفس، واقعية المضمون، وَهَّاجة النور، ساجية الأحزان، شاجية القلب، نازفة الروح، وجيعة الوجدان... تغنّي للأمل، وتهتف للمستقبل، تكفكف الدمع، وتمسح الألم... قلم مداده الألم الممض، وحرفه يمنح من معين معاناة جاوزت كلّ حد، وكلماته مصبُّ أوجاع بدَنية وروحية. هذا هو الكتاب الذي ألّفه الأستاذ فريد الأنصاري قبيل انتقاله إلى العالم الآخر بأيام.. فجاء صفحة بيضاء يشيع الصدق في كل كلمة من كلماتها ليلاقي بها ربه. وهذا الكتاب يشكّل قمة ما قاده إليه تفكيره، وخلاصة تجاربه عبر سني عمره قبل أن يطوي آخر صفحة من صفحات حياته.


المصدر الذي اقتبسة منه بعض الفقرات من رواية عودة الفرسان :
www.fgulen.com
غلاف كتاب رواية عودة الفرسان سيرة فتح الله كولن
أما هذه الورقات فإنني أهديها لكم أنتم شبابَ العالم العربي.. عسى أن نبصر موقع الرأس من أمّتنا.. فنسلك الاتجاه الصحيح، نحو استعادة الروح الذي فقدناه...(محبكم: فريد الأنصاري)

تقديم

ربما كان هذا النص الذي أقدمه اليوم للقراء رواية، أو سيرة، أو ربما كان قصيدة، أو كتاب تاريخ.. لست أدري..!
لكن الذي أدريه أنه حكاية عن أشجان روح، وتجربة وجدان، ونزيف أمة، وشلال من الشوق الخالص إلى الانعتاق، تدفقت أشعته من قلب رجل في بلاد الأناضول، حتى أشرقت على كل العالم..!
وإن يكن شيء من الذِّكْرَى أسجّله ههنا حول هذا المكتوب، فهو أنني شرعت في تدوين ملامحه بمستشفى "سماء" في مدينة إسطنبول العامرة سنة 2008، ثم دونت بعضها بعد ذلك ببيتي في مدينة مكناس بالمغرب الأقصى، ثم قُدِّرَ لي أن أختمها بعد سنة كاملة بمستشفى "سماء" مرة أخرى في مدينة إسطنبول.
وقبل ختام هذا التقديم، لا بدّ لي من شكر من وجب عليَّ شكره، من الإخوة الأتراك الذين بذلوا قصارى جهدهم في ترجمة نصوص الحوار الصحفي الواسع، الموسوم بـ"دنياي الصغيرة"، حيث عرض فيه الأستاذ فتح الله كولن كثيرًا من فصول حياته، التي كانت المادة الرئيسية لهذا النص. كما ترجموا لي مشكورين نصوصا أخرى مساعدة، ثم زودوني طيلة سنوات من التواصل المثمر، بمعلومات ثمينة، عن حقائق تاريخية هامة، وظروف الخدمات الإيمانية بتركيا، مما لا تحتويه كتب ولا مدونات، كانت كلها مراجع لا غنى عنها في بناء هذا العمل.
(فريد الأنصاري / إسطنبول: 23/سبتمبر/2009م.)







ثم جاء فتح الله!
هنا قرية "كُرُوجُكْ"، بادية من بوادي مدينة أرضروم الجميلة، هنا لم يزل دَمٌ عربي يتناسل محملاً بأحزان التاريخ وأفراحه.. دَمٌ لم يزل عَبَقُ النبوة يفوح من بين شرايينه، يُوَثِّقُ بزهوره الجريحة انتسابَه إلى آل بيت رسول الله، عليه الصلاة والسلام.. دمٌ لم يزل يحمل أشجان النـزيف الذي كان، وصرخات التقتيل والتشريد..! كانت نَسَمَةٌ من نور، تتنقل مكنونةً بين أصلاب آل كُولَن منذ أمد بعيد.. ولم يُقَدَّرْ لها أن تشرق على عالم الدنيا، إلا بعد انسلاخ أكثر من ثلث القرن الميلادي العشرين. كانت الأرض ساعتها قد ارتدَّت على أدبارها، وبلغت من جاهليتها ما كاد ينذر بخروج الدجال الأكبر!
كانت الريح قد هبت هذه المرة غربية العروق! وانطلقت من جبال الكفر القارس! مسلحة بمخالب الذئب الأغبر، وأنياب سباع الاستعمار، وسموم أبناء الأفاعي.. فاكتسح الموت الأزرق كل مدائننا، وجعل أشلاء جسومنا مِزَقًا...!
حتى كان اليوم الحادي عشر من الشهر الحادي عشر، من سنة 1938م.. حيث كان السيد "رَامِز كُولَنْ" على موعد مع الرحمة الإلهية، إذ وُلِدَ له "محمد فَتْحُ اللهِ كُولَنْ"!.. وبمولده وُلِدَ معنى جديد للحياة في بلاد الأناضول! فقبل هذا اليوم بيوم واحد فقط، كان قد مات "أتاتورك"! ثم نشأ "فتح الله" بعده يتدرج بمنازل الفتح، عبر حياة غير عادية تماما! حياة تملؤها أحوال عجيبة من مشاهد الغرابة، ومنازل شتى من ضروب المجاهدات الروحية، والبطولات الجهادية، تُذَكِّرُ بكرامات الأولياء الكبار، وأمراء القصص والأساطير، وأبطال التاريخ القديم!
ولم يكد الفتى يصل سن البلوغ، حتى احتضنته المساجد العثمانية في كل مكان، وخفقت قبابها بنشيجه العميق! وبدأت الطيور والعصافير تأتم به في صلاته وأذكاره! ثم انطلقت النوارس تحمل أصداء بكائه إلى كل بلاد الأناضول، فتوقظ الأنفس الوسنى، وتحرر الأرواح السجينة من قماقم الفخَّار! ولم يزل يرتقي بمنازله حتى حَدَّثَتْهُ الحوادثُ بلغة الإشارات، وألقت إليه الحمائمُ بالنُّذُرِ والبِشَارَات! ثم تدفق البوسفور من بين أصابعه جداولَ من نورٍ تسقي كل العالم!
كل الإشارات إذن تدل على أنه هو!.. فهذا صاحب طريقك يا قلبي.. فابحث عن كلمة السِّر أنَّى تلقَّاها وكيف؟ وفيمَ ألْقَاهَا ومتى؟ عساك تفوز بفك رموز رؤياك القديمة! ففتْح الله له سِرٌّ ليس يبوح به، ولكنك لو تصادف من صحبته "وَقْتًا" تتلقى منه إشارة! وفتح الله رجل له "أوقات"..! فاصحبْ ظِلَّهُ يا صاحِ تَرَ عجبًا! فإنك إنْ تَعْثُرْ على بذرة الدُّلْبِ تملكْ غابتها! فاصبر على نَصَبِ الطريق وانطلقْ!
                                          فيديو يوضع مدي العلاقة بين الراحل فريد الأنصاري والاستاذ فتح الله كولن    

منازل التحولات
هنا إسطنبول.. هنا معبر الفاتحين إلى كل أدغال العالَم!.. ما أن دخلتُ بين مآذنها حتى انتشى قلبي أملاً! لكنني لما اقتربت من جِسْرِ البُوسْفُورِ مَسَّنِي فَزَعٌ!.. كانت النوارسُ تضج في الفضاء بشكل مثير على غير عادتها..! فلم أَدْرِ أَعُرْسٌ هو أم محض عويل؟.. ومن يدري؟
أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَ ـنَّتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ..؟
...............................
هذا مَقَامُ تَغيُّرِ الأبْدَال.. ولِزَمَانِ التحولاتِ وَقْعُ الزلازلِ على المنَازِل!
كانت الأرض تدور بمنـزلة ذات طبيعة أخرى، تتداخل فيها الشعاعات بين غروب وشروق!.. وكانت الريح تقصف ببرد قارس! وأسرابُ الحمام والنوارس تطير هاربة، لتحتمي من صقيعها تحت أضلاع المآذن والقباب!
كنتُ قابعًا بزاوية من زوايا سور القسطنطينية القديم، قريبا من باب المدرسة، أنتظر قدوم المعلم، حتى إذا بلغ العصفُ مداه انتفض بديع الزمان النورسي، وأطل من فوق قباب المدينة، ثم مَدَّ جناحيه العظيمين حول أسوارها حتى أحاط بجميع الأبواب! فظل كذلك زمنًا يكابد وحده، ويجاهد قصف الريح وحده! وكلما أطل من تحت جناحيه ورأى سكون البلابل خلف القباب، دمعت عيناه في قَرِّ الريح! وصاح في تيارها الشديد:
"يا سعيد..! كن صعيدًا حتى لا تُعَكِّرَ صَفْوَ رسائل النور..!"
حتى إذا هدأت العاصفة، قرأ سورة الفتح، ثم فتح الأبواب وانصرف!
ناديتُه بأعلى صوتي:
- يا سيدي المعلم! أمَا لآخِر الفرسان من عودة؟
التفتَ إليَّ بعبسةٍ ترسم ملامح الإنكار على صفحة وجهه المهيب! ورَمَانِي بنورٍ لاَهِبٍ من وهج عينيه! ثم قال:
- ويحك أيها الفتى المغرور! أما علمتَ أنَّ لكل زمان صاحبَه؟
- قلت: ومن يغلق أبواب الريح إذا هاج العصف من جديد؟
- قال لي: هذا مقام الفتح يا ولدي فليس لزمانه من إغلاق!
- قلت: عجبا يا سيدي! وما فَتْحٌ في زمن ليس تطيق عواصفَه الأبوابُ، ولا أسوارُ مدائننا القديمة!؟
- قال: ما أجهلك يا ولدي بزمانك! ارفع رأسك قليلا نحو الأفق الأعلى؛ تَرَ شمس البشرى ترتفع الهوينى من خلف الأحزان، وتَرَ كلمات النور الأولى ترسم بين يديها قوس قزح، وتطرز على موج البحر نبوءَتها.. فإذا كنتَ ممن يحسن لغة الماء فاقرأ: "تُفْتَحُ القسطينيةُ أوَّلاً ثم تُفتح روميةُ"!؟
- قلت: بأبي وأمي أنت يا سيدي! وما روميةُ؟
- قال: روميةُ يا ولدي امرأة ساحرة تسكن بين جوانحنا! هي عاصمة الشيطان الكبرى.. تنغرز قوائمها الأربع في بحر الظلمات! ولها في كل العالم أدخنة وحرائق! في كل يوم تُحَرِّقُ ألفَ عصفور وحمامة! جيش النور الآن تجرد لها بأسلحة من وهج الشمس، وأميرُه يرتل من خلف الغيب سورة النصر، خاتمةً لمحن المستضعفين!.. وقريبا جدا سترى عجبا! جيش النور اليوم في كل العالم يقتبس من مشكاة الليل الأخضر زادًا للسير! فانظر ما حظك من مواجيده يا ولدي!
- قلت: وما سيماء أميره يا سيدي؟
- قال: لا تتعب نفسك يا ولدي في طلب الألقاب! فإنما هو طيفٌ، أو معنى، أو روح! بل هو قلبٌ من نور وهاج! هو جيش من ذَوْبِ الشمس، هو أشجانُ قلبٍ وترانيمُ روح، هو مكابدةُ حُبٍّ لم يزل جرحه ينـزف من خابية مشقوقة! هو آهاتُ أشواقٍ ارتقت ما بين سجود وركوع، فتشكلت في الفضاء غيمةً ربيعيةَ اللون، مكتنـزةً بالخير وبالبركات! لم تزل تهطل بالغيث في كل قارات الأرض! فَارْقُبْ إن شئت حدائقَها أنَّى رحلت؛ تجدْ وردتَها متفتحةَ الأجفان ندية!
- قلت: فما نَسَبُهُ ومكانُه؟ ما مولده وزمانُه؟
- قال: ويحك يا صاح! أما صاحب هذا الزمان فله مولدان اثنان! أولهما هو في المكان، وقد كان الذي كان. وأما الثاني فإنما هو في الزمان! فَارْتَقِبْ إبَّانَ هيجانِ الجرح، يومَ تأتي الرياح بحداء الأنين! فإنه لا ميلاد إلا بألم! واظفر بثاني المولدين تَرِبَتْ يداك! إنك يا ولدي إن تدرك إشراقتَه تكن من الفاتحين!
- قلت: فهل لي أن أكون من طلائعهم؟
- قال: بل دون إدراك منازلهم كلمةُ سِرٍّ مخفية في حوصلة الطير!
- قلت بلهف: أي طير يا سيدي؟
وانقطعت التجليات!
..............................
ثم مكثت عاما كاملا بعد تلك المشاهَدات! أنتظر المزيد ولا من مزيد! ورجعتُ إلى وطني أنتظر الإذن بالرحيل مرة أخرى إلى بلاد النور!
* * *
ما بين طنجة وجبل طارق، يَرْقُدُ بوغاز الأحزان!.. لم تزل نوارسُه كلَّ مساء تحكي بنشيجها الشجي مأساةَ الموريسكيين! لا شيء يحمل البوغازَ على تغيير عادته، فأحلامُه تُرْسِلُ موجةً نحو الشمال، لكنَّ مواجعَه تردها كسيرةً نحو الجنوب! والحِيتَانُ بينهما تغدو خماصا وتروح بطانا من لحم الإنسان! كنت أسير حافي القدمين ما بين طنجة وتطوان؛ لعلي ألتقط صوت حمام زاجل، قيل لي: إنه لم يزل ههنا مُذْ عَبَرَ أميرُ غرناطة الأخير طريدًا من جنته! فرثاه هذا الحمام الغريب بكنوز من أسرار الحكمة! قيل لي: إن له هديلا كلما انطلق شجاه اقشعرت له صخور الشاطئ! وبكت النوارسُ واهتاجت الأمواج!
قلت لفتاي: ويحك يا ولدي! ذلك ما كنا نَبْغ! إنها إذن كلمة السر الخفية! ارجع بنا فلعلي أفوز بإشارتها أو أفك طلاسمها! وعسى أن أقرأ فيها ميلاد أندلسٍ بمنـزلة أخرى، ما زلت أحتفظ بصورتها في قلبي منذ غروب الشمس عن أبراج مدائنها! لكنها صورة ذات تجليات أخرى، لم يزل فارس الزمان الجديد يرسم معالم حدائقها بقلبي وردةً وردةً، ويهيء أشواق الروح بمساجدها دواءً لأوجاع العالم! حتى قيل: إنه لن تسكن أحزان البوغاز إلا على أصداء مآذنها!
وارتددنا على أوجاعنا قَصَصًا.. نبحث بين الصخور والأشجار عن أمَارةِ عُشٍّ أو ريشٍ ولا نجد له أثرًا.. حتى كان ذات صباح..!
كانت الريح تهب نسيما ربيعيا، وأشعة الشمس ترتفع الهوينى نحو ضحاها، فترسم على ضباب البحر الخفيف أقواس قزح لا تتناهى!.. وفجأة انطلق الحمام يغرد يا سادتي من مكان ما، مكان لا أستطيع تحديد مواجعه! كانت مقاماته على أوزان الأذان! حاولت مرات تبين جهته فلم أستطع! أما المساجد فقد كانت أندلسية المعمار، وأما البكاء فقد كان تُرْكِيَّ الترسيل.. وكانت الآهاتُ تُرَجِّعُ أصداء مآذن إسطنبول وخلجانها! فتشربها مساجدُ فاس شهقةً شهقةً، وتبكي!
وتلقيت الإشارة، فرأيت عجبا! ثم دخلت بمنـزلة الحيرة!
قال لي: هذا زمان موت الجغرافيا وانبعاث التاريخ!.. كلمة السر يا ولدي هي في نُطْفَةٍ من نور، تخرج من بيت النبوة! وإنها هنالك في شرق الأناضول فارحل!
* * *
هذه إسطنبول مرة أخرى..! ناداني خاطرٌ حزين! قال لي: مقامك حيث أقامك! لا مكان لك اليوم يا صاح إلا بمنـزلة الاستغفار! فصِرتُ أسمع صوتا من أعماق فؤادي، يتكسر موجُه هونًا على شط لساني: رب اغفر لي..! رب اغفر لي..!
ها أنا ذا محمول على سيارة، كنت مريضا جِدًّا! لكني كنت على وعي بما أسمع وأشاهد.. كل شيء أدركه الآن، هذه الطريق الكبرى وسط إسطنبول، وهذه قبابها ومآذنها عن اليمين وعن الشمائل، تلقي بأنوارها في كل اتجاه.. وهذا هو الجسر العظيم، هو جسر نُصِبَ حديثًا، لكنه منصوب على تاريخ الفتوح بين آسيا وأوروبا! فلم يزل بعد ذلك قنطرةً لعبور النور الجديد إلى المستقبل! وهذا... آهٍ! هذا مستشفى "سماء" مرة أخرى!.. وهنا أدركتُ للتو مقامي! وعرفتُ أنني قد أخفقت في الامتحان الأول! فاستأنفت دروسي بفصول المدرسة الأيّوبية من جديد!
سنة كاملة يا سادتي وأنا أجري بين غروب وشروق! سنة كاملة وأنا أظن أني كنت أغسل أدران الروح عن بدني، ولكني اكتشفت الآن أنني لم أبرح مكاني! فعدت مثقلا بكل ذنوبي! لقد أخطأت الطريق إذن! فكان الحكم أن أعيد الدرس من البداية! فالرحمةَ الرحمةَ يا الله!
كان رأس السرير ميمما نحو القبلة، وكانت النوافذ الكبيرة مشرعة الأحضان على بحر مَرْمَرَة، والْجُزُرُ الخَمْسُ وَسَطَهُ كلها تنتصب أمامي كالأعلام.. كانت الشمس على وشك الغروب خلف قَدَمَيَّ، وكانت أشعتها تطرز مَرْمَرَةَ بمرثية الأشجان! وترسل إليَّ أهازيج من أذكار المساء، مُرَتَّلَةً عبر أوراق شجرة الدُّلْب المنتصبة خلف نافذتي! حتى إذا مات النهار شاهدت جنازتي ترتفع أمامي في أفق البحر الغارب، وتذكرت صلاتي! أدَّيْتُ العشاءين جمعًا وقصرًا؛ استباقا للحظة الوصل، ثم بكيت! كان الليل قد أشرقتْ مواجيدُه سُرُجًا تتلألأ في جزر البحر، وكانت مصابيح الساحل تحلم خافقة بشيء ما.. وغمرني الحنين إلى أورادي، فما أن شرعتُ في ترتيل مواجعها، حتى انهمرت على قفاي صفعاتُ الرحمة تترى! هي رحمة نعم لكنها صفعات! وكان الألم يا سادتي شديدًا!
ثم تذكرتُ.. آه! واسترجعتُ الدرسَ: لا ميلاد إلا بألم! فاظفر بثاني المولدين تَرِبَتْ يداك! ثم ناديت في ليل البحر الساجي: الرفقةَ الرفقةَ! يا نِعْمَ الأميرُ أميرُها، ويا نِعْمَ الجيشُ جيشُها!..
ألم يقل لي: هذا زمان نهاية الجغرافيا وميلاد التاريخ!؟
نعم ولكنْ، رِفْقًا بقلبي الضعيف عن الطيران! فإنما شأني أن أحتضن مواجيد المكان منـزلةً منـزلةً؛ عسى أن أبحر من موانئها بَعْدُ في مقامات الزمان! ذلك ما يقتضيه عجزي الحالي، فليس للمريد مثلي إلا أن يجلس متعلما بمقام الأدب!
هذه واردات النور تتدفق جداولُها بين يديك الآن يا صاح!.. فاحمل عصاك على كتفيك، وارحل سائحا نحو شرق الروح؛ بحثا عن منابعه الأولى! فلعلك تدخل زمان الفتح، وتكتشف سر بكاء فتح الله؛ فَتُشْفَى!
* * *
كانت غرفتي تنفتح على غرفة أخرى سكنها مرافقي. لم يكن مرافقا عاديا بل كان صاحب أحوال! قدموه لي على أنه ترجمان لغة، لكنه كان ترجمان روح! كان يتقن لغة الإشارات، ويفك طلاسم السلوك! ما رأيت فتى عميق الغور أَنْكَرَ لنفسه منه! مَنْ أخذه على ظاهره أضاع كنـزًا ولا كأي كنـز..! كان وجها شرقيا، يتكسر الحزن الجميل على ملامحه أبدًا، ولعينيه الراحلتين في بحر الغيب هيبةٌ وجلال! له تجليات يحضر فيها حينا ثم يغيب أحيانا أخرى، فلا يُدْرَى له بعد ذلك مكان! ما بين سواد شعره وعينيه يشرق بياض جبينه الوضاء، فجرًا صادق القسمات، لم يزل يبشر -رغم ما يكابده من أسى- بالخير والبركات!
ولعله سمع بخاطره الحساس صراخَ روحي الصامت؛ إذ طلبتُ رفقةَ أمير الفتح؛ نداءً خفيا من عمق ضميري!.. ومن يدري؟
فتح البابَ عليَّ بأدب مستأذنًا.. كان الليل قد سَجَا جمالُه، وهجع طيفه وخياله.. وكان عند رأسي مصباح خافت صغير، ينبض الهوينى في فضاء الغرفة، وينفث عجائبَ الألوان والأشجان.. قال لي:
- عفوًا.. هل من خدمة؟
طالعتُ ملامح وجهه الحزين، وأبصرتُ أثر الدمع نديا على مقلتيه.. فأدركت أنني قد أخرجته على التو من سبحاته الروحية، وشعرت بالندم! فقدَّمت بين يديه بعضَ عبارات الاعتذار المرتبكة، ثم سألته: ماذا قال الطبيب؟
صمتَ قليلا، ثم تمتم ببضع كلمات لم أتبين لها معنى، ثم سرح بعينيه عبر النافذة، متأملا أنوار جُزُرِ مرمرة.. ربما كان قد مضى من الليل نصفُه أو كاد.. فصار للسكون على العالم سلطان رهيب.. نظرت إلى عينيه الراحلتين بعيدًا، ثم سألته نزلةً أخرى، لكن هذه المرة بنظرة صامتة لم تنـزلق إلى نزق لساني: عفوًا هُوجَمْ!.. ماذا قال الطبيب؟([1])
وانتفضت جوانحه بقوة لكنه لم ينْبسّ ببنت شفة! بيد أنني يا سادتي سمعت الكلام ينطلق متدفقا من بين جوانحه، وكأنما هو صدى لهاتف يتنـزل عليَّ من العالم العلوي!
- قال لي: جسمك مرتبك جدا يا صاح! لكنما هو رَجْعٌ كسيرٌ لصورة الروح في خابيتك الكسيرة! أما الأطباء فلهم مسالكهم إلى طينك المسنون، وأما من يسلك فيك نحو جراحات الروح.. آه! أما مَسْلَكُ الروح إلى مواجعك يا صاح...آه!
ثم سكت!
وبعد أن أرسل نحو النافذة زفرة عميقة قال: والعلة الأولى يا صاح إنما هي من هناك!؟
وأصابني الفزع يا سادتي! ثم قلت:
- بأبي وأمي أنت أيها الوجه الغريب! قل لي: كيف يكون دوائي إذن وأنَّى أجده؟
ثم رحل في الأفق مرة أخرى، حتى لكأنما قد فارق هذا العالم، وأرسل تنهيدة لاهبة، تدفقت زفراتُها الْحَرَّى على نفَسٍ طويل! ثم قال:
- دواؤك أيها الرفيق العليل هو في العثور على لؤلؤة سِرِّك!
- لؤلؤةُ سِرِّي؟ وما أدراني ما لؤلؤةُ سِرِّي؟
- قال: إنها لآلِئُ في صدفات زمردية، تنبت هناك في أعماق بحيرة الأسرار!
- قلت: حيرني أمرك والله يا فتى!.. وما أدراني ما بحيرة الأسرار؟
- قال: هي بحيرة تجمعت مياهها من دموع الصِّدِّيقين! دون الوصول إلى حِمَاهَا الندي، والإشرافِ على شواطئها الجميلة سبعةُ جبال، على كل جبل منها سبعون قمة!
لم تزل ترفدها منذ قديم الزمان دموع الحواريين، وأشجان الصحابة الكرام، ومكابدات النُّسَّاك المتعبدين، وزفرات أويس القرني، وبكاء الحسن البصري، وشهيق أبي العالية الرياحي، وأسرار الإمام الجنيد، وأنفاس بشر الحافي، ومواجع الحارث بن أسد المحاسبي، ومواعظ الإمام عبد القادر الجيلاني، ومجاهدات الشيخ أحمد زروق الفاسي، ومواجع عبد الواحد بن عاشر الأندلسي، ومشاهدات بديع الزمان النورسي!
ولم يزل في كل عصر يرفدها بنشيج الشوق اللاهب صِدِّيقٌ أو شهيد!
قال لي: هناك في حِمَى بواديها، على جانب شاطئها الأيمن، يقف اليوم فتح الله! ومِنْ خلفه تصطفّ آلاف الجياد الأصيلة، تبيت الليل منسدلة الأعراف، خافضة جباهها الغراء نحو الثرى، في إخبات يخرق معايير الزمن ومنازل الساعات! ومن حين لآخر تراها في سُدُمِ الظلام الصافي تَصْفِنُ بقوائمها الْمُحَجَّلةِ إلى أعلى، وربما غطستها في ماء البحيرة أحيانا، ثم تكرع من ماء الحياة كل فجر، وترسل دموعها الحرى بردًا وسلامًا على العالمين، مصغية بآذانها اللطيفة، في انتظار صيحة الأذان! وثمة حواليها آلاف الأطياف تغوص نحو أعماق البحيرة، بحثا عن الصدفات الزمردية، وآخرون على الشاطئ يفتحون ما مَنَّ الله عليهم به منها، فيلتقطون ما يجدون بها من أسرار..!
فجرد عزيمتك يا صاح لاجتياز جبال الطريق! وإنها لمسالك ذات محالك ومهالك! وإنما أمان العبور نظرٌ في أعطاف جسمك الثقيل؛ تخففا من زوائده، وتقللا من خبائثه. ولا إمكان لذلك كله إلا بمقاطعة قيود الشهوات، والتحرر من أَسْرِ الآفات، والخروج من مضايق العادات؛ توبة نصوحًا، تنتشلك من دركات ما فات، وترفعك إلى درجات ما هو آت؛ عسى أن تكون أهلا للتحليق بجناح المتخففين! فإنه لا عبور لجسم ما تزال شحوم الشهوات تخنق شرايينَه!
نظرتُ إلى رفيقي فقلت مستعطفًا:
- فكيف الاتجاه إذن؟
- قال: وهل ثمة نور يطلع من غير الشرق؟ ثم رفع يده إلى أعلى وأشار..! قال لي: هناك تجد رائدَ الرحلة إلى بحيرة الحياة في هذا العصر، وإمام السائرين إليها في هذا الزمان! وإنما جُعِلَ الإمام ليؤتم به، "وَلاَ يُنْبِئُكَ مِثْلُ خَبِير!" فتجرد من طينك يا صاح ثم ارحل!
[1] هُوجَمْ: كلمة تركية تعني: أستاذي، أو سيدي.
لقاء الروح 
شرق الأناضول له رائحة أخرى.. قيل لي: إن دواءك هناك! فثمة بحيرةُ "وَانْ" الجميلة، تَعْرض جَوانحها مَجْمَعَ بحرين لطالب الحكمة، ومغتسَلاً أيّوبيّا للمرضى والمحزونين!
بحيرةُ النور مملكةٌ تحتضن التاريخ القديم، وتُعَلِّمُ الطيرَ المغرد ببساتينها أناشيد الروح المفعم بمكابدات الأنبياء! لم تزل قُراها الصغيرة تكتنـز بالأسرار: وَانْ، وتَطْوَان، وأَخْلاَط. وغير بعيد عنها نحو الجنوب الغربي تتلفع مدينةُ بِتْلِيس بالحشمة والوقار، وتتخفى قريةُ نُورْس بين بساتينها في خمارها الجميل.
بحيرةٌ ولا كأي بحيرة! طاهرة مطهرة! آية تفيض بالجمال والجلال! عبابها العظيم يمتد من الغرب نحو الشرق، في هيأة طائر أسطوري، يحكي عصر الديناصورات وملحمة العنقاء! رأسها الذي يحمل عرفا كبيرًا كعرف الطاووس، يرتفع نحو الشرق عاليا، مستشرفا شلالات "مُرَادِيَا" القريبة، ليرقبها وهي تتدفق من أعالي الصخور المعشوشبة الجميلة. ومن خلفها تَرَقْرَقُ البحيرةُ بأجنحتها وتتوثب، كأنها تتهيأ للتحليق بعيدًا، حتى تحط فوق ثلوج جبل أَرَارَات العظيم!
هنا بهذا الشرق القديم يرتفع سطح تركيا، وينتصب رأس بلاد الأناضول عاليا! مسالكُ برّية وعرة، وجبالٌ لا تزال على فطرتها! مرتفعاتٌ لها قصص من الملاحم النبوية القديمة، وحكايات من البطولات القَبَلِيَّةِ لشعوب شتى، وقصص أخرى لا تكاد تنتهي!
كل شيء هنا متميز، ولكل تميز فرادته! إلا أن فرادة مدينة "أخلاط" شيء آخر تماما! فبموقعها شمالَ غربي البحيرة، منحنيةً بدلال فطري، على مياهها الزرقاء، تبدو كأنها حاجب أنيق على عين حسناء! عزيزة مصونة، تنتصب مبانيها بين مسالك جبلية، ذات ثلوج ومروج، مما جعلها عبر التاريخ مَعْبَرًا طبيعيا بين الشرق والغرب، لأجيال من القوافل، وشعوب شتى من الغزاة، منذ عصور ما قبل الميلاد إلى العهد العثماني الأخير..! كل ذلك جعلها سجلاّ حافلاً لحقب شتى من التاريخ الإنساني! ولذلك لم تزل تتنازعها القبائل والإمبراطوريات، إلى أن وقعت بيَد الأتراك المسلمين -منذ القرون الهجرية الأولى- فكان لها تاريخ جديد، وميلاد جديد. ولم تزل منذ ذلك الحين تتدرج بمنازل المعاني ومقامات الروح، ما جعلها مصدرًا ثَرًّا للحياة المتجددة!
ومن ثم لم تزل "أخلاط" خليطا متناسقا من الشعوب، وفسيفساء مزركشة بألوان مختلفة، ولغات مختلفة، تركية، وفارسية، وكردية، وعربية، وأرمنية! وألوان أخرى من لغات الجن، تلقي بها الريح كلما عزفت أحزانها بين شماريخ الجبال!
لكن الجامع لكل هذا التنوع العجيب، إنما هو تلك الروح التي عبَرت نحو شرق الأناضول، قادمة من منابع النبوة المحمدية، هناك في واحة يثرب، مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام! حتى أشرقت أنوارها هنا على هذه الجبال الأبية! ومن حينها لم تزل شلالاتها العالية تتدفق بالهدى والنور على تركيا كلها.. ومن هناك امتدت شرايين الإيمان إلى القسطنطينية، ثم إلى أوروبا الشرقية حتى أسوار فِييَنا!
فمنذ أوائل القرون الهجرية، هاجرت حمائمُ وصقورٌ من آل بيت النبوة، تجنبا لفتن جزيرة العرب، شَامِهَا وعِرَاقِهَا، فحطّت رحالَها بمسالك شرق الأناضول الوعرة، واستوطنت جبالها ومروجها؛ بحثا عن مكان آمن لا تصله عيون بني أمية وبني العباس! فكانت هذه الأسر النبوية الطيبة لقاحا روحيا لقبائل الأتراك الأشداء! ومن اجتماع يقين الإيمان وشموخ الجبال، تَخَرَّجَ الإنسان التركي الجديد، رجل الفتح المبين! جامعا بين تجلّيات الجمال قلبًا ووجدانًا، وبين تجلّيات الجلال عزائمَ وأبدانًا! فكان من تاريخ الدولة العثمانية ما كان!
في عمق ذلك التاريخ كانت نُطْفَةٌ من سُنَّةِ آل البيت تتنقل بين الْمَهَاجِرِ والْمَنَافِي، جيلاً بعد جيل، حتى تفتّحت وردتُها في أسرة "آلِ كُولَنْ" التركية! من بذرة أصيلة، كان لها منذ قرون شجرةٌ باسقة الأغصان، تنتصب ثابتة في قرية "أخلاط" الجميلة! ولم تزل كذلك حتى كانت فتنة وشجار بينها وبين غيرها من الأسر، في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، حيث اختُطفت إحدى أخواتهم، فانتفض أخوها السيد "خليل الأخلاطي"، أحد أجداد "آل كُولَنْ" الأوائل، وقاتل دونها حتى أثخن في الغاصبين، وقتل منهم ما قتل! وعظم الخطب بين القبائل! فأدى ذلك إلى تدخل السلطان، وحُكم على السيد خليل هو وأسرته بالنفي إلى "حِصْنِ قَلْعَة"، إحدى قرى ولاية "أَرْضَرُوم" في شمال بلاد الأناضول! لكنَّ "خليلا" لم يلبث فيها إلا قليلا، ثم هاجر إلى قرية "كُرُوجُكْ" بنفس الولاية. وهناك استقرت الأسرة، وضربت مرة أخرى بجذورها في تربتها.
ومن هنا اشتهر نسب أسرة "آلِ كُولَنْ" إلى أَرْضَرُوم على الإجمال، وإلى قرية "كُرُوجُكْ" منها على الخصوص؛ لِمَا تَعَاقَبَ عليها فيها من الأجيال جُدُودًا وحَفَدَةً. ولم يترك "آلُ كُولَنْ" قريتهم المفضلة تلك بعدها إلا لفترتين، الأولى عندما نزح الناس عن أَرْضَرُوم كلها، إبان هجوم الرُّوس عليها أواخرَ القرن التاسع عشر. فهاجرت الأسرة إلى قرية من قرى "سِيوَاس" في وسط تركيا. حتى إذا وضعت الحرب أوزارها عادت مرة أخرى إلى "كُرُوجُكْ". ثم تركتها للمرة الثانية، عندما اشتعلت نيران الحرب العالمية الأولى، فهاجرت هذه المرة إلى قرية من قرى منطقة " يَرْكُويْ" التابعة لمحافظة " يُوزْغَاط". ولبثوا فيها بضع سنين حتى انتهت الحرب، ثم عادوا مرة أخرى إلى قريتهم المفضلة بأرضروم: كُرُوجُكْ. ولم تزل الأسرة بها تتوارث مقامات عالية من العلم والصلاح، ومنازلَ نادرةً من أخلاق الزهد والعفاف! فكان أغلب رجالها ونسائها بين الناس، مناراتِ هُدى، ومعالم صلاح.
رَجُلُ الأَسْرَار
فَتْحُ اللهِ لَدَيْهِ سِرٌّ لَيْسَ يَبُوحُ بِهِ!..
فَتْحُ اللهِ لَدَيْهِ سِرٌّ تنتظره الدنيا، لكن لا يخبر به أحدًا!..
فَتْحُ اللهِ يحمل في قلبه ما لا طاقة له به؛ ولذلك لم يزل يبكي؛ حتى احتار الدمعُ لِمَأْتَمِهِ!
فَتْحُ اللهِ وارثُ سِرٍّ، لو وَرِثَهُ الجبل العالي؛ لانهدَّ الصخر من أعلى قمته، ولَخَرَّتْ أركانُ قواعدِه رَهَبًا!
فَتْحُ اللهِ فَارِسٌ ليس تلين عَرِيكَتُهُ، ولا تضعف شَكِيمَتُهُ! ولَصَوْتُهُ في الكَرِّ أشدُّ من فرقعة الرعد! يقاتل في النهار حتى تذوب الشمس في دماء البحر، فإذا خَلاَ لِأَشْجَانِ الليل بكَى..!
مَكِينُ الوثبة كالأسد، حادُّ الرؤية كالصقر، رهيب الصمت كالبحر، إذا سكتَ خَطَب، وإذا نطقَ الْتَهَب! وإنه لَيَشِفُّ كالزجاجِ إذا هو كَتَب!
كل الناس يعرف فتحَ الله، وكل الناس يسمع فتحَ الله، ولكن لا أحد يعرف ما يريد فتحُ الله! فلم يزل سِرُّهُ في صدره، يَقْبَعُ في الأعماق مثل اللؤلؤ المكنون!.. ومن يدري؟ فلعله فارسٌ لم يشرق بَعْدُ زمانُه! ولاَ حَانَ وقتُه وإبَّانُه! وأي بلاء أشد على المرء من أن يعيش قَبْلَ أَوَانِه؟ ويعاشرَ غيرَ أهلِ زمانه؟
ولم يزل فتح الله يرسم ملامح الماضي في لوحة المستقبل، فينفخ فيه؛ فيكون واقعاً بإذن الله! كلما كَتَبَ مقالاً أو خَطَبَ خُطبةً؛ تشكلت كلماته صوراً لقوافل الصحابة الكرام، ولجيش محمد الفاتح، يزحفون صَفّاً من خلف غبار الغيم، مَطَراً يهطل من أُفُقِ بلاد الأناضول على كل العالَم!
فَتْحُ اللهِ لاَ يملك من هذه الدنيا سوى ملابسه القديمة، ومحفظة أحزان صغيرة تصحبه أنَّى حَلَّ وارتحل، لم يزل يحتفظ فيها بثلاثة مفاتيح عتيقة! الأول: مفتاح "الباب العالي" في إسطنبول، والثاني: مفتاح "باب الحِطَّةِ" في المسجد الأقصى، والثالث: مفتاح جامع قرطبة في أندلس الأشجان!
رجلٌ وحده يسمع أنينَ الأسوار القديمة، ونشيجَ الريح الراحل ما بين طنجة وجكارتا! وبكاءَ النورس عند شواطئَ غادرتها سفنُ الأحبة منذ زمان غابر، ولكن لم يشرق لعودتهم بَعْدُ شِرَاعٌ!.. فيبكي!
رجلٌ وحده يسمع صهيلَ الخيل القادمة من خلف السُّحُبِ، ونداءَ الغيبِ المحتجِبِ، إذ يتدفق هاتفه على شاطئ صدره، فينادي مِنْ عَلَى منبره: "ألاَ يا خيلَ الله اركبي!.. ويا سيوف البرق الْتَهِبِي!"..
ويَرَى ما ليس يُرَى.. فيبكي!
فتح الله سيرةُ بكاء! لقبه الأسري: "كُولَنْ"، ومعناه "الضحاك" باللسان التركي، وهذا من عجائب الأضداد، ومن غرائب الموافقات أيضا! فهو بَكَّاءُ الصالحين في هذا العصر، لكنه ما بكى إلا ليضحك الزمان الجديد، وليزهر الربيع في حدائق الأطفال. ما رأيت أحدا أجرى دمعا منه، ولا أكثر وَلَهًا.. وكأنما دموع التاريخ جميعا تفجرت أنهارها من بين جفنيه!..
ولقد أخطأ من ظنه يبكي ضعفاً أو خَوَراً، وإنما هو جَبَلٌ تشققت أحجاره عن كوثر الحياة الفياض، فبكى!..
الوعظ سر من أسرار فتح الله! فلم يزل منذ طفولته يبكي بمجالسه؛ فتبكي لبكائه كل عصافير الدنيا! ولقد رأيته يبكي طفلاً وشاباً، ثم كهلاً وشيخاً! ولم يزل يبكي ويبكي.. وما جف لتدفق شلالاته نَبْعٌ! بدموع مواعظه الْحَرَّى سقى فتحُ الله كل غابات بلاد الأناضول! وبها أروى عطش الخيل، وأطعم فقراء الليل! وبوابلِ بوارقها سقى كل صحاري العالم! ولقد عجبتُ من أي جبال الدنيا تخرج منابعه؟
ورحلتُ إلى طفولته؛ فلعلي أعثر على بدء تلقيه كرامات الأسرار وكيف؟
ولقد رأيتُ يا سادتي عَجَباً!.. كانت أسراب النحل تقتات من مَجْرَى مدامعه، فتنشئ آلاف الخلايا في كل مكان!..
................................
كان مَرَضِي قد زادني رَهَقاً، فرأيتُ في منامي مَرَّةً أنني أستقبل بنافذتي نحلاً، ثم رأيتني مرةً أخرى آكُلُ عسلاً؛ فعلمت أنني مُنَادًى، ثم امتطيت أشواقي وألقيت بنفسي في أحضان الرحيل!

                                                                                      بقلم فقيد الامة : فريد الأنصاري رحمه الله              
   مصدر هذه الفقرة :http://ar.fgulen.com/content/view/842/145/



محمد ربيع البجاوي

هناك تعليقان (2):

  1. شركة مكافحة حشرات بجدة
    من خلال تعامل الكثيرين معنا وإيمانهم بنا ومصداقية ما تقدمه أفضل شركة مكافحة حشرات بجدة استطعنا أن نكون نحن الأفضل في شركات مكافحة ورش الحشرات حول المملكة ويرجع ذلك لحسن السمعة فلسنا نتعامل مع خامات رديئة أو كيماوية مما جعل شركتنا من أوائل الشركات الرائدة في رش المبيدات لجميع الحشرات وتمكننا من صنع اسم كبير في مجال مكافحة الحشرات حيث تعامل معنا الكثير من سكان جدة ونحن عند حسن ثقتكم على أن نقدم لكم أفضل الخدمات في أى وقت فنحن في خدمتكم على مدار اليوم والساعة ونلبي جميع طلبات الرش التي تعرض علينا دون تأخير لأننا نملك عدد كبير من العاملين بالمجال مما ييسر عملية مكافحة الحشرات في أي وقت وبأسرع مما يمكن وبأجود الخامات المستوردة والتي تم عمل تجارب عديدة عليها قبل استعمالها ضمانا منا على الحفاظ على صحتكم ضد اي منتج مغشوش أو ضار على صحة الإنسان وبهذا استطعنا أن نصبح أفضل شركة مكافحة حشرات بجدة

    ردحذف
  2. شركة نظافة خزانات بمكة
    شركة نور الهدى أفضل شركة متخصصة للقيام بالاعمال الخاصة بالخزانات من تنظيف وغسيل للخزان وكذالك القيام بعملية تطهير وتعقيم الخزانات بأفضل العمالة المدربة على اعلى مستوى من الخبرة والجودة فىأداء العمل شركة تنظيف خزانات بمكة متخصصة أيضا فى صيانة وعزل الخزانات بأفضل الطرق الحديثة .
    رقم التواصل :0509344560
    شركة تنظيف خزانات بمكة

    ردحذف